الِاسْتِحَاضَةِ (مِنْ غَيْرِ سَبَبِ الْوِلَادَةِ) فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ احْتِرَازًا عَنْ النِّفَاسِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَيْضِ آيَةُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: ٢٢٢]
ــ
[حاشية البجيرمي]
مِنْ الْمَرْأَةِ كَالْكِيسِ، وَهِيَ عَضَلَةٌ وَعُرُوقٌ وَرَأْسٌ عَصَبُهَا فِي الدِّمَاغِ، وَلَهَا فَمٌ، وَلَهَا قَرْنَانِ شِبْهُ الْخَنَاجِرِ تَجْذِبُ بِهِمَا النُّطْفَةَ لِقَبُولِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوَّتَيْنِ قُوَّةَ انْبِسَاطٍ تَنْبَسِطُ بِهَا عِنْدَ وُرُودِ مَنِيِّ الرَّجُلِ عَلَيْهَا فَتَأْخُذُهُ يَخْتَلِطُ مَعَ مَنِيِّهَا، وَقُوَّةَ انْقِبَاضٍ تَقْبِضُهَا لِئَلَّا يَنْزِلَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمَنِيَّ ثَقِيلٌ بِطَبْعِهِ، وَفَمُ الرَّحِمِ مَنْكُوسٌ، وَأَوْدَعَ فِي مَنِيِّ الرَّجُلِ قُوَّةَ الْفِعْلِ، وَفِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قُوَّةَ الِانْفِعَالِ فَعِنْدَ الِامْتِزَاجِ يَصِيرُ مَنِيُّ الرَّجُلِ كَالْإِنْفَحَةِ الْمُمْتَزِجَةِ بِاللَّبَنِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُقُوعِ النُّطْفَةِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النُّطْفَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي بَشَرَةِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفُرٍ وَشَعْرَةٍ، ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ فِي الْأَرْحَامِ يَأْخُذُ النُّطْفَةَ مِنْ الرَّحِمِ فَيَضَعُهَا عَلَى كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ لَمْ تَكُنْ نَسَمَةً وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ قَالَ: يَا رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُقَالُ: اُنْظُرْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَتَجِدُ فِيهِ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ التُّرَابَ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: ٥٥] الْآيَةَ ثُمَّ يُحَرِّكُ النُّطْفَةَ بِالْيَدِ الْيُمْنَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَصَارَتْ عَلَقَةً وَيُحَرِّكُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَصَارَتْ عِظَامًا، وَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ عَظْمُ الْعَجُزِ وَهُوَ آخِرُ مَا يَبْلَى فِي التُّرَابِ، وَتَظْهَرُ سَبَّابَتُهُ الْيُمْنَى وَكَفُّهُ الْيُمْنَى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي يَظْهَرُ رَأْسُهُ، وَفِي الثَّالِثِ يَدُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ رِجْلَاهُ، وَفِي الرَّابِعِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَصَبًا وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عِرْقًا نِصْفُهَا سَاكِنٌ، وَنِصْفُهَا مُتَحَرِّكٌ، فَفِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ دَمٌ، وَفِي النِّصْفِ الثَّانِي رِيحٌ وَفِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ الْجِلْدَةُ، وَفِي الْيَوْمِ السَّادِسِ الشَّعْرُ وَالْأَظَافِرُ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أَنْفُهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ لِسَانُهُ، وَفِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ أُذُنَاهُ، وَفِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ مِنْ طَرَفِ الْهَامَّةِ، وَآخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِسَانُهُ، فَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَوَجْهُهُ إلَى صَدْرِ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَوَجْهُهَا إلَى بَطْنِ أُمِّهَا وَيَدَاهُ عَلَى وَجْهِهِ وَذَقَنُهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُنْقَبِضًا فِي الْمَشِيمَةِ فِي أَحْشَاءِ أُمِّهِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تَحِيضُ الْمَرْأَةُ إلَّا قَلِيلًا» . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مِنْ الْحَوَامِلِ مَنْ تَحِيضُ لِكَثْرَةِ الدَّمِ، فَإِذَا تَمَّ لَهُ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ خَرَجَ الْوَلَدُ مِنْ الرَّحِمِ إلَى دَارِ الدُّنْيَا، وَدَفَعَتْ الطَّبِيعَةُ ذَلِكَ الدَّمَ الَّذِي كَانَ يَتَغَذَّاهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقَدْ يُولَدُ الْمَوْلُودُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَعِيشُ وَيُولَدُ إلَى ثَمَانِيَةٍ فَلَا يَعِيشُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ يُولَدُ الْجَنِينُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ كَثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ وَذَكَرَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً حَمَلَتْ خَمْسَ سِنِينَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ دَاخِلَ الرَّحِمِ خَشِنٌ كَالسَّفِنْجِ وَجُعِلَ فِيهِ قَبُولٌ لِلْمَنِيِّ كَطَلَبِ الْأَرْضِ الْعَطْشَى لِلْمَاءِ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ طَالِبًا لِلْمَاءِ مُشْتَاقًا إلَيْهِ بِالطَّبْعِ، فَيُمْسِكُهُ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَلَا يَزْلِقُهُ بَلْ يَنْضَمُّ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفْسِدَهُ الْهَوَاءُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ لِلرَّحِمِ أَفْوَاهًا وَأَبْوَابًا، فَإِذَا دَخَلَ الْمَنِيُّ لِلْمَاءِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَنِينًا وَاحِدًا، وَإِذَا دَخَلَ مِنْ بَابَيْنِ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ وَلَدَيْنِ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فَيَكُونُ عَدَدُ الْأَجِنَّةِ فِي الرَّحِمِ بِعَدَدِ دُخُولِ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ فَافْهَمْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ) وَلِذَا كَانَ عَدَمُهُ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ فَتُرَدُّ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي الْحُرَّةِ فَلَا تُرَدُّ بِهِ إذَا عَقَدَ عَلَيْهَا فَوُجِدَتْ لَا تَحِيضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ عَيْبًا فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ عُيُوبَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَعُيُوبُ النِّكَاحِ مَحْصُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ) بِأَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْحَيْضِ، وَأَنْ لَا يُجَاوِزَ أَكْثَرَهُ، وَلَا يَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّهِ اهـ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ فِي الْحَيْضِ) أَيْ فِي وُجُودِهِ وَبَعْضِ أَحْكَامِهِ، فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَمْرَيْنِ أَيْ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: ٢٢٢] وَقَوْلُهُ: {فَاعْتَزِلُوا} [البقرة: ٢٢٢] وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: ٢٢٢] الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالسَّائِلُ لَهُ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ، وَقِيلَ السَّائِلُ عَنْهُ هُوَ الدَّحْدَاحُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَوْلُهُ: أَيْ الْحَيْضِ أَيْ عَنْ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِالْحَيْضِ لِيَصِحَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ أَذًى؛ لِأَنَّ الْمَحِيضَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى مَحَلِّ الْحَيْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute