للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَحِقُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَنْعِهِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي تَعَلُّقِ الِاسْمِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: ٦٧] . وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» .

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَتَلَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ - هَلْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؟ أَمْ جَزَاءَانِ؟ فَسَبَبُهُ: هَلْ أَكْلُهُ تَعَدٍّ ثَانٍ عَلَيْهِ سِوَى تَعَدِّي الْقَتْلِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ فَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّعَدِّي الْأَوَّلِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ أَثِمَ.

وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الْجَزَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ، وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. وَكَانَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْمَصِيدَاتِ.

وَالثَّانِي: مَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ.

يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ أُصُولِ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " أَنَّهُ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍِ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ". وَالْيَرْبُوعُ: دُوَيْبَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ وَذَنَبٌ، تَجْتَرُّ كَمَا تَجْتَرُّ الشَّاةُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْكُرُوشِ، وَالْعَنْزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَعْزِ مَا قَدْ وُلِدَ أَوْ وُلِدَ مِثْلُهُ. وَالْجَفْرَةُ وَالْعَنَاقُ مِنَ الْمَعْزِ، فَالْجَفْرَةُ مَا أَكَلَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرِّضَاعِ، وَالْعَنَاقُ قِيلَ: فَوْقَ الْجَفْرَةِ، وَقِيلَ: دُونَهَا.

وَخَالَفَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ: لَا يَقُومَانِ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ هَدْيًا وَأُضْحِيَةً، وَذَلِكَ الْجَذَعُ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] .

وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْجَذَعِ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ مَا سِوَاهُ. وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْدَى صِغَارُ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ، وَكِبَارُ الصَّيْدِ بِالْكِبَارِ مِنْهَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَحُجَّتُهُ أَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمِثْلِ، فَعِنْدَهُ فِي النَّعَامَةِ الْكَبِيرَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الصَّغِيرَةِ فَصِيلٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ.

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: فِي حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ غَيْرِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَرَّةً: شَاةٌ كَحَمَامِ مَكَّةَ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكُومَةٌ كَحَمَامِ الْحِلِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ حَمَامٍ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ سِوَى الْحَرَمِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ: كُلُّ شَيْءٍ لَا مِثْلَ لَهُ فِي الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ فِيهَا إِلَّا الْحَمَامُ فَإِنَّ فِيهِ شَاةً، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>