يُشْبِهُ حَالَ الْأَجِيرِ (عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَبِالْجُمْلَةِ) الْبَائِعِ مَنْفَعَةً بِالْبَائِعِ الرَّقَبَةَ، فَمَرَّةً يُشَبِّهُونَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي عَمِلَ: بِالسِّلْعَةِ الَّتِي لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي، فَيَقُولُونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، وَمَرَّةً يُشَبِّهُونَهُ بِالَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَمُتْ فَيَقُولُونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ، وَمَرَّةً يُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ الَّذِي فَاتَتْ فِيهِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى سَقْيِ حَائِطٍ، فَسَقَاهُ حَتَّى أَثْمَرَ الْحَائِطُ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ الْأَقْوَالَ. وَتَشْبِيهُ بَيْعِ الْمَنَافِعِ فِي هَذَا الْبَابِ بِبَيْعِ الرِّقَابِ هُوَ شَيْءٌ - فِيمَا أَحْسَبُ - انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ; لِأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمُفَارِقِ لِلْأُصُولِ يَضْعُفُ، وَلِذَلِكَ ضَعُفَ عِنْدَ قَوْمٍ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الرُّخَصِ، وَلَكِنِ انْقَدَحَ هُنَالِكَ قِيَاسُ عِلَّةٍ، فَهُوَ أَقْوَى. وَلَعَلَّ الْمَالِكِيَّةَ تَدَّعِي وُجُودَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ يَلِيقُ بِهَذَا الْمُخْتَصَرِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ: هَلْ يُتْبَعُ بِالدَّيْنِ فِي رَقَبَتِهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُتْبَعُ بِمَا فِي يَدِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ إِنْ أُعْتِقَ أتبع بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّهُ يُبَاعُ، وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ بَيْعِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْعَى فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَلْزَمُ سَيِّدَهُ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ.
فَالَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بَيْعَ رَقَبَتِهِ قَالُوا: إِنَّمَا عَامَلَ النَّاسَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَالَّذِينَ رَأَوْا بَيْعَهُ شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْجِنَايَاتِ الَّتِي يَجْنِي، وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الرُّجُوعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ: فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوا مَالَهُ بِمَالِ السَّيِّدِ إِذْ كَانَ لَهُ انْتِزَاعُهُ.
فَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ تَعَارُضُ أَقْيِسَةِ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: إِذَا أَفْلَسَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى مَعًا بِأَيِّهما يَبْدَأُ: هَلْ بِدَيْنِ الْعَبْدِ، أَمْ بِدَيْنِ الْمَوْلَى؟ فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: بِدَيْنِ الْعَبْدِ; لِأَنَّ الَّذِينَ دَايَنُوا الْعَبْدَ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ثِقَةً بِمَا رَأَوْا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنَ الْمَالِ، وَالَّذِينَ دَايَنُوا الْمَوْلَى لَمْ يَعْتَدُّوا بِمَالِ الْعَبْدِ.
وَمَنْ رَأَى الْبَدْءَ بِالْمَوْلَى قَالَ: لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمَوْلَى.
فَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَرَدُّدُ مَالِ الْعَبْدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ حُكْمَ مَالِ السَّيِّدِ.
وَأَمَّا قَدْرُ مَا يَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ: فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ: يَتْرُكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ الصِّغَارُ الْأَيَّامَ. وَقَالَ فِي الْوَاضِحَةِ وَالْعَتَبِيَّةِ: الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، وَيَتْرُكُ لَهُ كِسْوَةَ مِثْلِهِ. وَتَوَقَّفَ مَالِكٌ فِي كِسْوَةِ زَوْجَتِهِ لِكَوْنِهَا هَلْ تَجِبُ لَهَا بِعِوَضٍ مَقْبُوضٍ - وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِهَا - أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَتْرُكُ لَهُ كِسْوَةَ زَوْجَتِهِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ لَهُ إِلَّا مَا يُوَارِيهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute