غنياً من أصحاب الملايين من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان، لقدر أن يشتري مملكة بأسرها، وكان تسعة وتسعون بالمائة خدماً يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد، ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال، ولا واحدة بالألف من النساء، يقدر أن يقرأ، وكان الضعيف مضطهداً مقهوراً مسحوقاً تحت الأقدام مسحوقاً في الطين والدم، بل حتى القوي كان مهدداً بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء.
كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية، فادرس القرن العاشر، فلا زخارف أقوال الواعظين، ولا كذب المعتذرين، ولا الإذعان السياسي من المؤرخين، يقدر أن يخفى عن ذوي الألباب عظيم تبعة الكنيسة، ولاسيما البابوية، في ذلك الزمان، الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها. وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاءً وحزناً من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية. لقد حطّم بول من ناحية وأوغسطين من ناحية أخرى مدنية الإنسان، فهل هذا هو الذي سميناه - بعيدين عن اتِّباع الهوى - مدنية الله؟
لقد فازا في جميع بلاد أوروبا إلاّ زاوية واحدة، ألا وهي جزيرة إيبريا (الأندلس) التي نسميها اليوم إسبانيا والبرتغال، فقد أزيل الصليب من تلك الأرض في ابتداء القرن الثامن، وحكمها المسلمون. أجل قد بلغت رايات العرب المطرّزة المحمولة مع متن القرآن ظافرة تجتاح جبال (البرت) وتتألق في شمس جنوبي فرنسة، وصارت الممالك النصرانية مهددة، والمدرسون الأغمار - يقول المؤلف النصراني - في مدارسنا العالية، لا يزالون يقولون للأطفال الأغرار، ناقلين من مختصرات كتيبات التاريخ غير النزيهة، ويطنبون في مدح (شارل مارتل) الظافر حين لقي العرب في سهول فرنسة، وصدّهم عنها وحفظ العالم من المدنية.
إذ لا يوجد في الدنيا مدرس في جامعة أو مدرسة، يتجرأ أن يقول لتلامذته