للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يعرفه كل مؤرخ، أن العرب أقاموا حضارة من أعظم الحضارات العالمية، وأن شارل مارتل وجنوده كانوا لصوصاً متوحشين برابرة، وأن عرب الأندلس لو نجحوا في فتح أوروبا، وأقاموا فيها قرنين، وأقاموا فيها مدنيتهم كما فعلوا بإسبانيا، لكنّا الآن متقدمين خمسة قرون أكثر مما نحن عليه اليوم، ولا يستطيع عادٌّ أن يعدّ مقدار الدماء والدموع والفاقة والعدوان التي سبَّبها ذلك الظفر المبين، الذي ناله شارل مارتل في سهول فرنسة الجنوبية. وربما تتعجب إذا قيل لك: إنه يجب أن يضم درس حضارة العرب في الأندلس إلى دروس الدين ونشوء الإنسان وارتقائه، وسينقضي عجبك سريعاً جداً متى علمت أنه يثمر لنا درسين حيويين مهمين الأول: إنه من الباطل، أن يقال في أي بقعة من بقاع أوروبا، إنها لم تقدر أن تعود إلى المدنية بسرعة، لأن الدول الرومانية قد سحقها الغزاة البرابرة من أهل الشمال تحت أقدامهم: والثاني، إن البعث الحقيقي للحضارة الأوروبية لا علاقة له بدين النصرانية، بل هو عدوّها المبين.

قبل سنوات وقفت على جسر قرطبة، وفكرت في ذلك المنظر المحزن للهيكل العظمي لقرطبة التي أصبحت قرية في سكانها البائسين وشوارعها الضيقة القذرة ونهرها القذر. سكانها أقل من مائة ألف نفس، في بيوت بالية وفقر شديد، بينما كانت قبل ألف سنة أعظم مدينة في الأرض، يقارب سكانها مليوناً من النفوس السعيدة المغتبطة، وكانت لهم ثروة يمكن أن تشتري بها الممالك الأوروبية النصرانية مراراً، مع أميال معمورة بقصور المرمر القيمة، تلمع بين الحدائق البهيجة، ممتدة أمام ذلك النهر. وكانت فيها العلوم والفنون التي جذبت الناس إليها من كل ناحية من نواحي الدنيا، حيث كان العلم والفن يقدران حق قدرهما.

كان الرومان قد مدَّنوا إسبانيا وبريطانيا وفرنسة وجنوبي ألمانيا وإيطاليا، أولئك الذين كانوا محرومين من الوحي، شهوانيين، فجّاراً، ماديين، جعلوا من أبنائها الأولين أمة مهذّبة أرقى - بلا حدود - من أيّ أمة من أهل الممالك

<<  <  ج: ص:  >  >>