للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النصرانية بعد ألف سنة، وأنت إلى الآن تمشي في طرقهم المعبّدة وتعبر على قناطرهم في إسبانيا، وهذه المدنية الرومانية الإسبانية، قد سحقتها القبائل التيوتونية تحت أقدامها، مثلما سحقت فرنسة وأشد مما صنعت بإيطاليا، لقد زلزلها الفندال المتوحشون، وحكمها القوط الغربيون وسكنوها، وكما يقول سكوت (ميخائيل سكوت Michal Skot) : " لم تترق أمة قط تحت حكم الرئاسة الدينية، وأن تقوى القسيسين الروحية، قد قضى عليها تعطشهم الشديد إلى التسلط والاستبداد في الحكم على البلاد وأهلها (الفصل الأول ص ٣٦٣) ". وستانلي لين بول ( Stanly Lane Poole) لم يجد بداً أن يعترف بمثل ذلك في كتابه: العرب في الأندلس (ص ٧٠) فقال: "لاشك في أن القوط كانوا متعبدين، إلاّ أنهم كانوا يرون أن عبادتهم تكفِّر ذنوبهم، وكانوا في الفسق مثل أشراف الرومان الذين سبقوهم. وحتى القسيسون الذين كان يعظون ويحضون الناس على الأخوة المسيحية - حين صاروا أغنياء، وملكوا الضياع - اتبعوا السياسة المأثورة في الجور، فصاروا يعاملون عبيدهم وخدمهم أسوأ معاملة، كما كان يعمل أشراف الرومان قبلهم".

وهذه صورة إسبانيا في القرنين السابع والثامن. ولما استوطن القوط الغربيون إسبانيا في القرن الخامس، أظهروا على الفور، أن قوة التيوتونية البربرية إذا تزوجت بثقافة الرومان، تتولد منهما مدنية جديدة، وذلك يبطل الرواية المزعومة: أن النصرانية لأجل أن تمدِّن البرابرة يلزمها زمان طويل. والذي يبطل الشطر الثاني من تلك الرواية، وهي أن النصرانية كانت قوة ممدِّنة، هو أن القوط الغربيين وكنيستهم جميعاً سقطوا إلى حضيض الجهل والرذائل والجور كسائر بلاد أوروبا خلال قرنين.

والآن، دعنا ننظر من أين جاءت القوة الممدِّنة حقيقة. كانت بلاد العرب بكراً لم تُفتح ولم تمدّن قط، حتى أواخر القرن السابع، فجاء محمد عليه الصلاة والسلام، فأوقد نيران الحماسة الدينية في بلاد العرب بدينه الجديد، فبعث في العرب نشاطاً عجيباً، فانطلقوا يفتحون البلدان، ويدخلون الناس في

<<  <  ج: ص:  >  >>