بفرط ذكائهم، ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة، على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلاّ بعد مضي أربعة أو خمسة قرون. ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط، فمع كثرة النفوس المفرطة، كانوا لا يرون أحداً يصاب بمصيبة إلاّ نفَّسوا عنه الكرب وواسوه، وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها. وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاماً حسناً في استخدام البطالين في إصلاح الطرق، والأشغال العامة. وكان عبد الرحمن الثاني قد أعلن أن كل مَن يريد العمل يمنحه. ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب - كما أثبت المحققون - كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد، وكانت المعارف والتعليم - كما سترى في فصل آخر - أحسن مما كانت في ممالك الرومان، ولم يكن يضاهيها إلاّ ما بلغه اليونان من المعارف العالية في أرقى أيامهم، والخلفاء أنفسهم شيَّدوا المارستانات ودور الأيتام، كما يفعل ملوك اليونان - ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات من أوروبا - وكان الأعيان والتجار لا يألون جهداً في اقتفاء آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات. وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون من المكروبين لينفسوا كربهم.
والنساء الّلائي نزلن إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا عملاً بما روته التوراة في قصة حواء من المحال، ولكراهية القسيسين السابقين للزواج وإيثارهم العزوبة، كنّ على خلاف ذلك عند العرب مكرمات مالكات حريتهنّ. وللكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذين حلاّ محل التقشف والتعصب في دمشق، انتقلا إلى الأندلس، فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعاشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا، لم توجد في الأندلس إلاّ في أواخر أيامهم. والنساء في القصر الملكي بقرطبة، كنّ يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور، وإن مالت طباعهن إلى غير ذلك، ولم يكن من الصعب عليهن الاتصال بالأدباء والشعراء وأصحاب الفنون الصناعية. وكان طلب العلم مباحاً لهن بكل حرية، وكثير منهن كان لهن ولع بالعلوم الرائجة في ذلك