للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولبث ملك قشتالة أعواماً أخرى على خطته في إرهاق المملكة الإسلامية والعبث فيها، والمسلمون يدافعون جهد استطاعتهم، وأمراء المغرب مشغولون عن نجدتهم بما أصابهم من هزائم متوالية، وما شجر بينهم من خلاف. وفي سنة (٧٥٠ هـ - ١٣٤٩ م) غزا النصارى سهول الجزيرة الخضراء مرة أخرى، وكان ملك قشتالة يرمي بهذه الغزوة إلى غاية هامة هي الاستيلاء على جبل طارق. وكان هذا الثغر ما يزال منذ عصور أمنع ثغور المسلمين وأشدّها مراساً. فلما رأى النصارى استحالة أخذه عنوة، ضربوا حوله الحصار الصارم، وكانت تدافع عنه حامية مغربية قويّة، ورابط ملك غرناطة بجيشه في مؤخرة النصارى، واستمر حصار جبل طارق زهاء عام كامل، والمسلمون ثابتون كالصخرة التي يدافعون عنها، وقد عيل صبر الغزاة ودبّ الوهن إلى نفوسهم. ثم فشا الوباء في الجيش النصراني، وهلك ملك قشتالة في مقدمة مَنْ هلك من جنده، فكان ذلك نذيراً بخلاص الثغر المنيع والمدافعين عنه، واضطر النصارى إلى رفع الحصار (٧٥١ هـ - ١٣٥٠ م). وأُنقذ المسلمون بذلك من كارثة فادحة، وأبدى المسلمون بهذه المناسبة ضروباً مؤثرة من تسامح الفروسية، فتركوا موكب الملك المتوفَّى يخترق طريقه إلى إشبيلية دون تعرض، وارتدى كثير من أكابرهم شارة الحداد مجاملة وتكريماً، وخلف الفونسو على العرش في الحال ولده بيدرو (بطره) الملقب بالقاسي (١).

واستمر أبو الحجاج يوسف في الحكم بضعة أعوام أخرى، ساد فيها السلام والأمن، ولكنه ما لبث أن قُتل غيلة أثناء صلاته في المسجد الأعظم في يوم عيد الفطر سنة (٧٥٥ هـ - تشرين الأول - أكتوبر - ١٣٥٤ م) قتله مخبول لم يفصح عن بواعثه وأغراضه، فمزّق وأحرق بالنار على


= وقد نشرت رسالة ابن الخطيب مع ترجمتها الألمانية في مجلة أكاديمية العلوم البافارية سنة ١٨٦٣ م.
(١) ابن خلدون (٤/ ١٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>