غرناطة، وتسرّبت في الوقت نفسه أنباء غامضة عن المعاهدة السرّية، وعما حققه أبو عبد الله ووزراؤه لأنفسهم من المغانم الخاصة، وسرى الهمس بين العامة، واضطرم سواد الشعب يأساً وسخطاً على قادته، ولا سيما أبي عبد الله الذي اعتبر مصدر كل مصائبه ومحنه، وتعالى النداء بوجوب الدفاع عن المدينة حتى الرمق الأخير، وحدثت حركة انتقاض، خشي أبو عبد الله والقادة أن تقضي على خططهم وتدابيرهم، ولكنها انهارت قبل أن تنتظم، وأضحى كل فرد يفكر في مصيره.
واستقبل المسلمون عهود ملك قشتالة في تردّد وتوجّس، والشك يساورهم في إخلاص أعدائهم، وإزاء ذلك أعلن الملكان الكاثوليكيان في يوم ٢٩ تشرين الثاني - نوفمبر، مع قسم رسمي بالله أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية في العمل في أراضيهم أو حيث شاءوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب. ولكن الأيمان والعهود لم تكن - حسبما تقدّم - عند ملكي قشتالة، سوى ذريعة للخيانة والغدر، ووسيلة لتحقيق المآرب بطريق الخديعة الشائنة. وقد كانت هذه أبرز صفات فرديناند الكاثوليكي، فهو لم يتردّد قط في أن يعمل لتحقيق غاياته بأي الوسائل، أو أن يقطع أي عهد أو يقدّم أي تأكيد، دون أن ينوي قط الوفاء بما تعهّد.
ولكن الشعب الغرناطي استمرّ في وجومه وتوجسه ويأسه، ولم تهدأ الخواطر المضطرمة، وكان أبو عبد الله والقادة يخشون تفاقم الأحوال، وإفلات الأمر من أيديهم، فاعتزموا العمل على التعجيل بالتسليم، حرصاً على سلامة المدينة وسلامة الزعماء، وألاّ ينتظروا مرور الستين يوماً التي نصت عليها المعاهدة. وفي ٢٠ كانون الأول - ديسمبر، أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف كماشة إلى فرديناند مع خمسمائة من الرهائن من الوجوه والأعيان، تنفيذاً لنص المعاهدة، وليعرب له عن حسن نية مليكه واستعداده، كما حمل إليه هدية تتألف من سيف ملوكي وجوادين عربيين مسرجين بعدد