للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرّفاً، ولا متّفقاً مع سمات البسالة والتضحية والشهامة.

أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها، بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول: إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هي تبعة التفريط، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصّر في العواقب.

على أن أبا عبد الله، على ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق في نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفّق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التي نزلت به، وظروف الإغراء التي كانت تحيط به والتي حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصّر، وسعى الملكان الكاثوليكيان إلى تنصير مَن يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين، بكل الوسائل، هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبا عبد الله على الاستجابة إلى دواعي التحريض والإغراء، فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذي انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه المحنة معتصماً بدينه المتين، وهو ما يشير إليه في دفاعه المتقدِّم.

واستقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس في ظل بني وطّاس، وشيَّد بها قصوراً على طراز الأندلس، ويُروَى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس فيها شدّة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع كثير من الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدّة والفاقة (١)، وعاش أبو عبد الله في منفاه طويلاً يجرع كأسه المرّة حتى الثمالة، ويتقلّب في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال تلك الأيام المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية في سحق الإسلام بالأندلس، وسحق مدنيته وكلّ رسومه وآثاره،


(١) أزهار الرياض (١/ ٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>