منذ أوائل القرن الثالث عشر في جنوبي فرنسا. وفي عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق في تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرّمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة في العهد القديم.
ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضي الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر والزيغ في العقيدة، بل تعددته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرّافة والعرّافين، وشُبِّه هؤلاء بالكفر. وجاء بعد ذلك دور يهود، فاتهموا بسبّ النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا وتتبّعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب، على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر في مطاردة الكفر والزّيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها.
ب - تلك هي الظروف التي قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، في مختلف أنحاء أوروبا: في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسباني إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة. وقد أنشئت محاكم التحقيق في مملكة أراغون منذ القرن الثالث عشر، ووضعت لها في سنة (١٢٤٢ م) إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر في صوغ ديوان التحقيق الإسباني. وعرف هذا الديوان الأرغوني بالديوان القديم، وعكف حيناً على مطاردة الألبيين وإخماد دعوتهم في أراغون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والرّوع.
على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة لنشاط ديوان التحقيق الإسباني، ذلك أن ظروف إسبانيا النصرانية في ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين إسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها في ميدان الحرب والسياسة، كان كلها تذكي النزعة الصليبية، التي كانت تجيش بها إسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر إلى طوائف كبيرة من