لكنّ أهمية معرفة المكي من المدني لا تتزعزع بهذا القول. فالقاضي أبو بكر أوجبها على علماء الأمة. وممن تحدث بوضوح عن أهمية هذه المعرفة محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن».
يقول: «من أشرف علم القرآن علوم نزوله، وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما نزل بالجحفة (١)، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم مدني. هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ له أن يتكلم في كتاب الله تعالى». (البرهان، ج ١، ص ١٩٢).
وكلام النيسابوري هذا لا يناقض كلام القاضي أبي بكر، فهو يلزم المجتهد الذي يتصدى لكتاب الله بمعرفة المكي والمدني، ويفصل المسائل التي يجب عليه أن يعرفها. وقد أوردنا النص هنا لكي تعلموا منه المسائل التفصيلية التي حرص كثير من دارسي القرآن الكريم على معرفتها، ووردت بشأن الكثير منها روايات عن الصحابة.
ولقد أثر عن بعض الصحابة علم واسع بهذه الأمور: فيروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «والله الذي لا إله غيره، ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله الا وأنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه».
(١) الجحفة قرية على طريق المدينة بينها وبين مكة أربع مراحل.