يقول القاضي أبو بكر في كتابه الانتصار:«لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وفصّله لهم. ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذي تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول بعينه، وقوله هذا هو الأول المكي وهذا هو الآخر المدني.
وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته. وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية، فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس، ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه». (البرهان، ج ١، ص ١٩٢).
يستخلص من هذا الكلام ثلاثة أمور:
١) أن معرفة المكي والمدني لم تكن مما علّمه الرسول لصحابته، أي أن هذه المسألة لم يعرف عن الرسول صلوات الله عليه تحديد لها.
٢) أن معرفة المكي والمدني- على هذا- موضوع اجتهادي، يجوز لعلماء الأمة أن يحكموا فيه وفق اجتهادهم.
٣) أن معرفة المكي والمدني ليست واجبة على كل مسلم، لكن لا بد من معرفتها لبعض علماء الأمة، حتى يعرفوا الناسخ من المنسوخ. فهي إذن مسألة اجتهادية تعتبر الإحاطة بها فرض كفاية، لا فرض عين.