للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأمَّا دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال: فليس بصحيح، فإن الله - سبحانه وتعالى - ربط التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه، وقد أيد الله - سبحانه وتعالى - رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلَّتهم على أنَّ ما جاءهم هو من عند الله، ودلَّت أممهم على ذلك، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أنَّ ما جاءهم هو من عند الله ... فكلُّ علمٍ لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علمًا، فضلًا عن أن يكون لَدُنِّيًّا.

فالعلم اللَّدُنِّي: ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله - سبحانه وتعالى - على لسان رسله، وما عداه فلدُنِّيٌّ من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود، وقد انبثق سد العلم اللَّدُنِّي، ورخص سعره، حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدُنِّي، وصار من تكلَّم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ويلقيه شيطانه في قلبه: يزعم أنَّ علمه لدُنِّي، فملاحدة الاتحادية، وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون: إنَّ علمهم لدُنِّي، وقد صنَّف في العلم اللدُنِّي متهوكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلة المتفلسفين، وكلٌّ يزعم أنَّ علمه لدُنِّي، وصدقوا وكذبوا فإنَّ اللدني منسوب إلى (لدن) بمعنى عند، فكأنهم قالوا: العلم العندي، ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه، وقد ذمَّ الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (١)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ


(١) سورة آل عمران: ٧٨.

<<  <   >  >>