للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ الصَّوْمُ يُجْزِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ، وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ فِيهِ التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا) يَعْنِي خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُهُ الطَّعَامُ إلَّا فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الرِّفْقُ بِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَوُصُولُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان. وَقَوْلُهُ: (وَأَمَّا النُّسُكُ) يُقَالُ: نَسَكَ لِلَّهِ نُسُكًا وَمَنْسَكًا: إذَا ذَبَحَ لِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لِكُلِّ عِبَادَةٍ نُسُكٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْهَدْيُ الَّذِي يَذْبَحُهُ فِي الْحَرَمِ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ عَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَالْحَلْقِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ (؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ) كَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ (أَوْ فِي مَكَان) كَمَا فِي دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾؛ وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، (وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ) وَهُوَ الْحَرَمُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَاصِ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ تَلْوِيثُ الْحَرَمِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ) ظَاهِرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الْقِرَانِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَإِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: «أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ» وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى قَوْلِهِ: أَوْ صَدَقَةٍ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا الْإِطْعَامُ لَا الصَّدَقَةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>