فِي يَدٍ مَانِعَةٍ فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ إلَّا إذَا أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ، وَلَا إقَامَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ وَالْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ إذْ هُوَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَضَعَ فِي يَدِهِ الْمَالَ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالًا ضَمِنَ) يُرِيدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيدَاعٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَاخَذُ بِأَفْعَالِهِ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(بَابُ الْقَسَامَةِ)
قَالَ (وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ.
يَعْنِي أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ، وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ لَثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُبَاحِ فَكُلُّ مَنْ أَتْلَفَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى التَّسْلِيطِ تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ (فِي يَدٍ مَانِعَةٍ) أَيْ مِنْ الْإِيدَاعِ، وَالْإِعَارَةِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُودَعَ وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدٍ مَانِعَةٍ عَنْ الْإِيدَاعِ، وَمَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مَالَهُ فِي يَدٍ تَمْنَعُ يَدَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، إلَّا إذَا كَانَ وَضَعَهُ فِيهَا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِقَامَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ تَضْيِيعًا مِنْ جِهَتِهِ، وَفِي قَوْلِهِ (؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ لَا يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْقَيِّمِ عَلَى الْمُقَامِ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَإِلَّا لَانْسَدَّ بَابُ الْوَدِيعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْإِيدَاعُ مِنْ الصَّبِيِّ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى الْإِتْلَافِ لَضَمِنَ الْأَبُ مَالَ الْوَدِيعَةِ بِتَسْلِيمِهِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ لِيَحْفَظَهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ تَضْيِيعٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِالتَّضْيِيعِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ تَسْتَلْزِمُ إمَّا وِلَايَةَ الْمُقِيمِ عَلَى مَنْ آقَامَهُ مَقَامَهُ كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ وِلَايَةُ الْمُقَامِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْوَدَائِعِ، وَلَوْ يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ الْأَجْنَبِيَّ.
وَقَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ) أَيْ لِحَقِّ الْعَبْدِ يَعْنِي لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالِكَ يَعْصِمُهُ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِكِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ بِالتَّسْلِيطِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ اسْتِهْلَاكِ عَبْدِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ مِنْهُ يَضْمَنُ الْمُسْتَهْلِكُ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا فَيَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِمَا بِالتَّسْلِيطِ. وَنُوقِضَ بِمَا إذَا أَوْدَعَ الصَّبِيُّ شَاةً فَخَنَقَهَا فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَرَبُّ الشَّاةِ مَا كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ يُوجَدُ التَّسْلِيطُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ إتْلَافَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا وَالشَّاةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْ خَنْقَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَضْيِيعٌ فَكَانَ كَالتَّسْبِيبِ. وَقَوْلُهُ (؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ الْمَالُ دُونَ غَيْرِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَالِكَ بِالْإِيدَاعِ عِنْدَ الصَّبِيِّ إنَّمَا أَسْقَطَ عِصْمَةَ مَالِهِ عَنْ الصَّبِيِّ لَا عَنْ غَيْرِهِ وَمَالُهُ مَعْصُومٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا كَانَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقَتِيلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَئُولُ إلَى الْقَسَامَةِ ذَكَرَهَا فِي آخِرِ الدِّيَاتِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ. وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ وُضِعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute