قَالَ: (وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ حَيْثُ يَكُونُ لِلرَّادِّ حَقُّ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَبِيعِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطَ حَقُّ الْحَبْسِ. وَلَنَا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ.
قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ (وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَمَلٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ.
فَصْلٌ
وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ النَّشَا وَغَيْرِهِ سِوَى إزَالَةِ الْوَسَخِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَصَّارِ وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ﵀. وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ قَاضِي خَانْ أَنَّ إحْدَاثَ الْبَيَاضِ فِي الثَّوْبِ بِإِزَالَةِ الدَّرَنِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ. قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الْبَيَاضَ كَانَ مُسْتَتِرًا وَقَدْ ظَهَرَ بِفِعْلِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْآبِقُ إذَا رَدَّهُ إنْسَانٌ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ قَائِمٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآبِقَ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ بِرَدِّهِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا) يَعْنِي حَقَّ الْحَبْسِ لِلصَّانِعِ بِالْأَجْرِ فِيمَا إذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ هُوَ (مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ) قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِي الَّذِي لِعَمَلِهِ فِيهِ أَثَرٌ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ (لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ) وَالْمُسَلِّمُ إلَى صَاحِبِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ كَمَا لَوْ عَمِلَ فِي بَيْتِ الصَّاحِبِ.
وَالْجَوَابُ (أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ) وَذَلِكَ جِهَةُ غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِالِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ التَّسْلِيمُ (فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ) وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَصَارَ كَقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ، فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرَى لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
قَالَ (وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ إلَخْ) وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ نُقِلَ عَنْ حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ ﵀ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنْ تَعْمَلَ بِنَفْسِك أَوْ بِيَدِك مَثَلًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ ﵀ بِقَوْلِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ، كَأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا لِلْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا، وَفِيهِ تَأَمَّلْ لِأَنَّهُ إنْ خَالَفَهُ إلَى خَيْرٍ بِأَنْ اسْتَعْمَلَ مَنْ هُوَ أَصْنَعُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ أَوْ سَلَّمَ دَابَّةً أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَمَلَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْعَمَلُ وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
لَمَّا ذَكَرَ اسْتِحْقَاقَ تَمَامِ الْأَجْرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ تَمَامِ الْأَجْرِ أَوْ بَعْضِهِ، وَعَقَّبَهُ لِأَصْلِ الْبَابِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute