قَالَ (وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. قَالَ (وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَسِيسِ) وَهَذَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَالصَّوْمُ ظَاهِرٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ مَنْهِيَّةٌ لِلْحُرْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَطْءِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا قَالَ (وَتَجْزِي فِي الْعِتْقِ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ) لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِ الْمَمْلُوكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،
عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ جِهَةُ إبَاحَةٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ سَبَبَهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الْعَوْدَ عَمَّا قَالَ لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْمُنْكَرِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَبَبٍ مُسْتَقِرٍّ لَهَا حَتَّى لَوْ عَادَ بِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ عَادَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا سَقَطَتْ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لِلْعَوْدِ مَدْخَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ لَمَا جَازَ أَدَاءُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْعَوْدِ حَقِيقَةً لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ جَائِزٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ الْفِعْلَ فَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَزْمَ فَلَا نُسَلِّمُ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ. نَعَمْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ إنْهَاءً لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالظِّهَارِ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الْفِعْلِ حَلَالًا إلَّا بَعْدَ إنْهَاءِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ فَوَجَبَ التَّعْجِيلُ عَلَى الْفِعْلِ لِيَكُونَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِصِفَةِ الْحِلِّ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (عِتْقُ رَقَبَةٍ) إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنَّ الْعِتْقَ قَدْ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ أَبَاهُ وَنَوَى الْكَفَّارَةَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا.
وَقَوْلُهُ (مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَرْقُوقِ دُونَ الْمَمْلُوكِ لِأَنَّ الْكَمَالَ فِي الرِّقِّ شَرْطٌ دُونَ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا صَحَّ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ. وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ رَقَّهُ حَتَّى يُشْتَقَّ مِنْهُ الْمَرْقُوقُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ رَقَّ فُلَانٌ: إذَا صَارَ رَقِيقًا: أَيْ عَبْدًا.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَزْهَرِيَّ حَكَى عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنَّهُ جَاءَ عَبْدٌ مَرْقُوقٌ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ. وَالثَّانِي أَنَّ تَذْكِيرَ الذَّاتِ لَا يَجُوزُ، فَالصَّوَابُ ذَاتٌ مَرْقُوقَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute