وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَارٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ.
(وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ.
مُقْسَمٍ بِهِ وَهُوَ بِاَللَّهِ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَأَفْعَلَن أَوْ لَا أَفْعَلُ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ. وَفِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ «وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا» فَالْمُدَّعِي مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ مَشْرُوطٌ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ خَيْرًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَى تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ خَيْرًا مِنْهَا فَيَجْعَلَ الشَّرْطَ مَوْجُودًا نَظَرًا إلَى حَالِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْحِنْثِ (تَفْوِيتَ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ) لِمَا أَنَّ الْجَابِرَ يَقْتَضِي سَبْقَ خَلَلِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ خَلَلُ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ فِيمَا قُلْنَا فَتَصْلُحُ الْكَفَّارَةُ جَابِرَةً (وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَا أَيْ لَا جَابِرَ لِمَعْصِيَةِ الْحِنْثِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَصْلُحْ الْكَفَّارَةُ السَّابِقَةُ جَابِرَةً لِذَلِكَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجَابِرَ لَا يَتَقَدَّمُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا: أَيْ فِي تَحْنِيثِ النَّفْسِ وَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْوِيتُ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَالْجَابِرُ هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَالْفَوَاتُ إلَى جَابِرٍ كَلَا فَوَاتٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ الْحَاصِلَةُ بِتَفْوِيتِ الْبَرِّ كَلَا مَعْصِيَةٍ لِوُجُودِ الْجَابِرِ، أَمَّا إذَا أَتَى بِالْبَرِّ وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَقَطْعُ الْكَلَامِ عَنْ الْأَبِ وَقَتْلُ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِلَا جَبْرٍ لَهَا فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ قَائِمَةً لَا مَحَالَةَ، فَلِهَذَا قُلْنَا يُحَنِّثُ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ وَالثَّانِي أَنْسَبُ.
(وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ (عَلَيْهِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَفِّرُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَكَانَ اعْتِقَادُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَرِّ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ (وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظَّمًا) إذْ الْكُفْرُ إهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْخَالِقِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعَظُّمَ (وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ) بِخِلَافِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظُهُورُ حَقِّ الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute