وَتَرْكُ الشَّيْءِ إلَى خَلَفٍ لَا يَكُونُ تَرْكًا وَالْأَفْضَلِيَّةُ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ السَّتْرِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا.
(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) هَكَذَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (فَإِنْ صَلَّى قَائِمًا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ فِي الْقُعُودِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ، وَفِي الْقِيَامِ أَدَاءُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ (إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ) لِأَنَّ السَّتْرَ وَجَبَ لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَحَقِّ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ لَا خَلَفَ لَهُ وَالْإِيمَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَرْكَانِ.
لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فِي مِقْدَارِ الرُّبْعِ فَإِنَّ الْمَانِعَ فِي النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ، وَكَذَا الْمَانِعُ فِي الْعَوْرَةِ الرُّبْعُ، فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْمَانِعِيَّةِ وَفِي الْمِقْدَارِ اسْتَوَى اخْتِيَارُ الْمُصَلِّي أَيْضًا فِي أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي الْمَنْعِ وَفِي الْمِقْدَارِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ: أَيْ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: (وَتَرْكُ الشَّيْءِ إلَى خَلَفٍ لَا يَكُونُ تَرْكًا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَفِي الصَّلَاةِ عُرْيَانًا تَرْكُ الْفُرُوضِ. لَكِنَّ قَوْلَهُ تَرْكُ الْفُرُوضِ وَجَوَابُهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَارِي قَاعِدًا، وَأَمَّا إذَا صَلَّى قَائِمًا فَإِنَّمَا يَكُونُ تَارِكًا لِفَرْضٍ وَاحِدٍ وَهُوَ السَّتْرُ وَإِذَا تَرَكَ فَرْضًا وَاحِدًا فَقَدْ أَقَامَ فَرْضًا بِإِزَائِهِ وَهُوَ تَرْكُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَكَانَ تَارِكَ فَرْضٍ بِإِزَاءِ الْإِتْيَانِ بِفَرْضٍ آخَرَ فَيَتَخَيَّرُ، وَكَأَنَّ مُحَمَّدًا ﵀ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَهُوَ الصَّلَاةُ قَاعِدًا حَمْلًا لِحَالِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَتَى بِفَرْضٍ وَتَرَكَ فَرْضًا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ فَرْضِيَّةَ السَّتْرِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِيَّةِ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ السَّتْرِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا. فَالْجَوَابُ أَلَّا نُسَلِّمَ أَنَّ فَرْضِيَّةَ السَّتْرِ أَقْوَى: فَإِنَّ خِطَابَ السَّتْرِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ إنَّمَا هُوَ فِي السَّتْرِ بِالطَّاهِرِ لَا بِالنَّجِسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَسَاوَيَا؛ وَلَأَنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا فَقَدْ أَتَى بِبَعْضِ السَّتْرِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْأَرْكَانِ وَتَرَكَ اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَإِذَا صَلَّى بِالثَّوْبِ قَائِمًا فَقَدْ اسْتَعْمَلَ النَّجَاسَةَ وَأَتَى بِالْأَرْكَانِ فَيَسْتَوِيَانِ فَيَتَخَيَّرُ.
(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، هَكَذَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَكِبُوا فِي سَفِينَةٍ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَخَرَجُوا مِنْ الْبَحْرِ عُرَاةً فَصَلَّوْا قُعُودًا. وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَقْرَانِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا أَجْزَأَهُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ) يَعْنِي الصَّلَاةَ قَاعِدًا (أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ وَجَبَ لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَحَقِّ النَّاسِ) وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ آكَدَ؛ وَلِأَنَّ الْإِيمَاءَ خَلَفٌ عَنْ الْأَرْكَانِ فَتَرْكُهُ كَلَا تَرْكٍ، بِخِلَافِ السَّتْرِ فَإِنَّهُ لَا خَلَفَ لَهُ: قِيلَ: هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَقْتَضِيَانِ انْحِصَارَ الْجَوَازِ فِي الْقُعُودِ فَلَا وَجْهَ لِلْجَوَازِ قَائِمًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ وَجْهَ الْجَوَازِ قَائِمًا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْأَرْكَانِ نَفْسِهَا، وَالْإِتْيَانُ بِهَا خَيْرٌ مِنْ الْإِتْيَانِ بِخَلَفِهَا، وَالسَّتْرُ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ وُجُوبًا وَنَفْعًا لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِجَمِيعِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ بِجَمِيعِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute