(وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ.
الْمُلْتَقِطُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ إنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَقْتَضِي قِيَامَ الْمَحَلِّ عِنْدَهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ بَعْدَ هَلَاكِهَا صَحَّتْ الْإِجَازَةُ.
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِي التَّصَدُّقِ شَرْعًا مَلَكَ الْفَقِيرُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَمَا ثَبَتَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِرْدَادِ كَالْوَاهِبِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَكَالْمُرْتَدِّ إذَا عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَمَا قُسِمَتْ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ بَيْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَحَلِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَحَلِّ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ أَيْضًا، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَضْمِينُهُ وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ إبَاحَةً مِنْهُ لَا إلْزَامًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِذْنِ يُسْقِطُ الْإِثْمَ وَلَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ (وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً أَخَذَهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَالِكَ إنْ لَمْ يُجِزْ الصَّدَقَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْفَقِيرِ أَوْ هَالِكَةً، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفَقِيرَ، وَأَيَّهُمَا ضَمَّنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِفِعْلِهِ: الْمُلْتَقِطُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَالْفَقِيرُ بِالتَّسْلِيمِ بِدُونِهِ. لَا يُقَالُ: الْفَقِيرُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَا يُوجِبُ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) ظَاهِرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute