لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ. لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ،
فِعْلٍ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ، وَالْقُدْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَلَفِهِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِانْتِفَائِهِمَا فَانْتَفَى الدَّيْنُ ضَرُورَةً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ الدَّيْنُ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ هُوَ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ، يُقَالُ دَيْنٌ وَاجِبٌ كَمَا يُقَالُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ، وَالْوَصْفُ بِالْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُلْت: لَزِمَ حِينَئِذٍ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَيْك بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي التَّقْرِيرِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ قُلْت فَقَدْ يُقَالُ الْمَالُ وَاجِبٌ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ الدَّيْنَ (فِي الْحُكْمِ مَالٌ)؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ إلَّا بِتَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ، فَوَصْفُ الْمَالِ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْمَوْصُوفَ بِهِ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَالِ فَكَانَ وَصْفًا مَجَازِيًّا، فَإِنْ قُلْت: الْعَجْزُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ يَدُلُّ عَلَى تَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي نَفْسِهِ كَمَنْ كَفَلَ عَنْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّهَا تَصِحُّ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُطَالَبَةُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ. قُلْنَا: غَلِطَ بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ وَبَيْنَ ذِمَّةٍ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ وَلَمْ تَبْقَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ إلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ، وَسَيَذْكُرُ السَّنَدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ كَانَ أَحَذَقَ فِي وُجُوهِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ وَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَاسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا فِيمَا هُوَ نَظِيرُهُ فِيمَا سَيَأْتِي.
(قَوْلُهُ: وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ يَعْنِي أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدَّيْنُ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ بُطْلَانَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لَا الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يُخْرِجُ مَنْ قَامَ بِهِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَيْنِهِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْغَيْرُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَإِنَّ السُّقُوطَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute