وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ
الْمَكْفُولَ بِهِ هَاهُنَا مَالٌ مُطْلَقٌ عَنْ التَّوْصِيفِ لِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا بِهِ أَوْ يُقْضَى بِهِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى مُطَابِقَةً لِلْمُدَّعَى بِهِ فَصَحَّتْ وَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهَا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ. وَمِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ لَوْ صَدَّقَهُ فَقَالَ قَدْ كَفَلْت لَك بِمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ: أَيْ بِمَا قُضِيَ لَك عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنْ لَيْسَ لَك شَيْءٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.
وَالثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْأَصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَكُلُّ مَا كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا غَيْرَانِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَقْضِي بِالسَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْمِلْكُ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَقَضَى بِالْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ بِبَيِّنَةٍ ثَبَتَ أَمْرُهُ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَالْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، فَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَمَسُّ جَانِبَ الْغَائِبِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُهُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ: أَيْ الشَّأْنَ أَنَّ هِمَّةَ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَدَّى الدَّيْنُ عَنْ الْكَفِيلِ إلَى الْأَصِيلِ.
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَبْهَمَ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ فُلَانٍ بِكُلِّ مَالٍ لَهُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ سَوَاءٌ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ، وَالْكَفَالَةُ إذَا كَانَتْ بِمَعْلُومٍ أَمْكَنَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَعْرُوفٌ بِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَا تَصِحُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ، وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا كَانَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute