وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ.
قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا) لِقَوْلِهِ ﵊ «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ.
فَاضْطُرَّ ثُمَّ تَقَلَّدَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﷺ «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ﵁.
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجْهَ تَشْبِيهِ الْقَضَاءِ بِالذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ قَالَ:؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ تُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَالذَّبْحُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَبَالُ الْقَضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَاهٌ وَعَظَمَةٌ لَكِنْ فِي بَاطِنِهِ هَلَاكٌ. وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ ﵀ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ هَذَا اللَّفْظَ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَاهُ وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ، فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ يَحْلِقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قُلِّدَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ (التَّرْكُ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ ظَنُّهُ) فِيمَا اجْتَهَدَ (وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ) إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا (أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ) إنْ كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَاجْتَنَبَهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ؛ وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِيهِ أَصْلَحُ وَأَسْلَمُ لِدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَقْضِيَ بِحَقٍّ وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ لَا، وَفِي تَرْكِ الدُّخُولِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ (فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْأَهْلَ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ) فِي حَقِّهِمْ (وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ) فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِيهِ أَثِمُوا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ حَتَّى قُلِّدَ جَاهِلٌ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ لِأَدَائِهِ إلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا إلَخْ) مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهَا بِلِسَانِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute