للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ

رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ غَيْرُ مَنْقُولٍ قُبِلَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ. فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِبْصَارُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَعِنْدَهُمَا اسْتِمْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ. أَمَّا عَدَمُ الْقَبُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَسَيَأْتِي جَوَابٌ آخَرُ.

وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَايَنَةِ حَصَلَ عَنْهُ التَّحَمُّلُ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمُعَايَنَةِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا خَلَلَ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ غَيْرُ مُوَفٍّ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعْرِيفِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا شَهِدَا عَلَى الْمَيِّتِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ذَكَرَ نِسْبَتَهُ.

وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ يَسْتَبِدُّ بِتَحْصِيلِ الْأَدَاءِ بَلْ الْأَدَاءُ مُفْتَقِرٌ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ أَيْ فِي النَّغْمَةِ بِتَأْوِيلِ الصَّوْتِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ بِالشُّهُودِ الْبُصَرَاءِ كَثْرَةً وَفِيهِمْ غُنْيَةً عَنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ التَّمَكُّنُ مِنْهُ لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِأَجْلِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَلَا إشَارَةَ ثَمَّةَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُضُورِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى. وَفِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ، وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ اعْتَبَرْتُمْ النَّغْمَةَ مُمَيَّزَةً لِلْأَعْمَى فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُهُمَا عَنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالنَّغْمَةِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.

وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَاتِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّ انْتِفَاءَهُ بِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالنِّسْبَةِ وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ أَيْضًا إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كَوْنِ النِّسْبَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ لِلتَّعْرِيفِ.

وَأَمَّا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَنْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>