لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ
عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قَضَى بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ، لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَيَحْتَمِلُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً، بِخِلَافِ يَمِينِ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ مُقِرًّا إنْ كَانَ إقْرَارًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ ﵊ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ تَرَفَّعَ، أَوْ مُقِرًّا إنْ تَوَرَّعَ، لِأَنَّ التَّرَفُّعَ أَوْ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالنُّكُولِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ فَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ يُخَالِفُهُ.
وَقَالَ ﷺ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَمْ يَذْكُرْ النُّكُولَ وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ، وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَتَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ بِالْأَيْمَانِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَالْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ. رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ الْمُنْكِرَ طَلَبَ مِنْهُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَقَالَ: لَيْسَ لَك إلَيْهِ سَبِيلٌ، وَقُضِيَ بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ ﵁، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قالون، وَهُوَ بِلُغَةِ أَهْلِ الرُّومِ أَصَبْت.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute