قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ، فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ)، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعِتْقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا
فِي مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ قَائِمًا، وَتَقْدِيرًا إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا بِمُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فَقَالَا إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ كَانَ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَرْضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَاخْتَارَ تَرْكَ التَّضْمِينِ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى كَانَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ آبِقًا فَعَادَ مِنْ إبَاقِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَالُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي الثَّوْبِ أَوْ الْعَبْدِ، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا.
وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ ﷺ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ لِتَقُومَ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ الْبَدَلُ عِوَضًا عَنْ الْعَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْجِنْسِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ لِيَكُونَ رِبًا، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْقِيَمِيِّ، وَذَكَرَ فِي الدَّلِيلِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى إنَّمَا هُوَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَلَا يُصَارُ فِيهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلِيُّ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَيْهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمِثْلِيَّ إذَا انْقَطَعَ حُكْمُهُ كَالْقِيَمِيِّ لَا يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَقَبْلَهُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ.
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَغْصُوبِ جَازَ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِمُقَابَلَةِ الْمَغْصُوبِ ثَمَنٌ وَبِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ مَبِيعٌ، وَبِمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْمُسْتَهْلَكَ لَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ حَالًّا جَازَ وَبِأَنَّ الْبَدَلَ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى الِاعْتِيَاضِ عَنْ الْمَقْتُولِ وَعُورِضَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ الْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ الْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ حُكْمًا لَجَازَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ يَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ تَمْلِيكَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالْهَالِكُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إسْقَاطًا وَصِحَّتُهُ لَا تَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَقِيقَةً
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مَا مَرَّ فِي الْعَتَاقِ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «وَمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ».