وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ. وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ. وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ. فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً
لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ ﵁: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ؛ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي. وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ
يَكُونَ عَامًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ خَاصًّا كَذَلِكَ، أَوْ عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ فَصَلَ الْمُصَنِّفُ ﵀ بَيْنَهُمَا بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ لَهُ) أَيْ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ: أَيْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ (وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ) أَيْ مُؤْنَةَ مَنْ يُطِيقُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَقَوْلُهُ (وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ) يَعْنِي حِصَّةً مِنْ الشُّرْبِ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ، أَيْ فَلَا يُعَارَضُ الضَّرَرُ الْعَامُّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ، بَلْ يُغَلَّبُ جَانِبُ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَيُجْعَلُ ضَرَرًا، وَيَجِبُ السَّعْيُ فِي إعْدَامِهِ وَإِنْ بَقِيَ الضَّرَرُ الْخَاصُّ. وَقَوْلُهُ (خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ) يُقَالُ بَثَقَ السَّيْلُ مَوْضِعَ كَذَا: أَيْ خَرَقَهُ وَشَقَّهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُلُوصِ. ثُمَّ قِيلَ: يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ ﵀: وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ ﵀. وَقَوْلُهُ (فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ) يَعْنِي فِي الْخُصُوصِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْإِجْبَارُ فِي النَّهْرِ الثَّانِي، فَإِنَّ مَنْ أَبَى مِنْ أَهْلِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِأَنَّ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَامٌّ وَالْأُخْرَى خَاصٌّ، فَيُجْبَرُ الْآبِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا جَبْرَ لِحَقِّ الشَّفَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ إحْيَاءُ حَقِّ الشَّفَةِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ عَامٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبَرَ الْآبِي عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الشَّفَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ﵀ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبَرُ الْآبِي لِحَقِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute