لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا إثْمَ فِيهِ) يَعْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ
قَالُوا: الْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ، فَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِثْمِ مِنْ حَيْثُ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّثَبُّتِ فِي حَالِ الرَّمْيِ، إذْ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى (وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْمًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ مَوْضِعًا آخَرَ فَمَاتَ حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ وُجِدَ بِالْقَصْدِ إلَى بَعْضِ بَدَنِهِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ كَالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ
قَالَ (وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَمُوجِبُهُ إذَا تَلِفَ فِيهِ آدَمِيٌّ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ)؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَأُنْزِلَ مَوْقِعًا دَافِعًا فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلْحَقُ بِالْخَطَإِ فِي أَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ قَاتِلًا
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهَذِهِ كَفَّارَةُ ذَنْبِ الْقَتْلِ وَكَذَا الْحِرْمَانُ بِسَبَبِهِ (وَمَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَاهَا)؛ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَمَا دُونَهَا لَا يَخْتَصُّ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ
بِالثَّانِي فَهُوَ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ ﵁ (وَلَا إثْمَ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ النَّوْعَيْنِ لِقَوْلِهِ ﷺ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ (وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ فِيهِ إثْمًا) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَالْحِرْمَانُ يَجِبُ بِأَنْوَاعِ الْقَتْلِ فِيمَا هُوَ جِنَايَةٌ، قِيلَ عَلَى الْمُوَرِّثِ تَضَمَّنَتْ تُهْمَةَ الِاسْتِعْجَالِ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَهَذَا كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَصَدَهُ، إلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ الْخَطَأَ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَصَرِ الضَّوْءِ فِي الْفَرَائِضِ مُسْتَوْفًى بِتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَمُوجَبُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ.
وَصُورَةُ ذَلِكَ رَجُلٌ تَعَمَّدَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَ رَجُلٍ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ عُنُقَهُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقَوَدُ. وَلَوْ أَرَادَ يَدَ رَجُلٍ فَأَصَابَ عُنُقَ غَيْرِهِ وَأَبَانَهُ فَهُوَ خَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْعَمْدِ وَلَا بِالْخَطَأِ، إلَّا أَنَّهُ كَالْخَطَأِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ قَاتِلًا) يَعْنِي فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَكَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَالْحِرْمَانِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْقَتْلِ وَهُوَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً لِعَدَمِ اتِّصَالِ فِعْلِهِ بِهِ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ عَنْ الْهَدَرِ فَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَافِرُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ يَأْثَمُ وَمَا فِيهِ إثْمٌ مِنْ الْقَتْلِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْخَطَأِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ) أَيْ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِالْقَتْلِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ إثْمَهُ إثْمُ الْحَفْرِ لَا الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ (وَمَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَاهَا) يَعْنِي لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ (لِأَنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ) فَإِنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إلَّا بِالسِّلَاحِ وَمَا جَرَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute