الْقِصَاصِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ (فَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ) لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ (وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ. .
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْأَوْلِيَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ أَثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِشَهَادَتِهِمَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ انْقِلَابُ الْقَوَدِ مَالًا (فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) مَعْنَاهُ: إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ لَهُمَا فَصَحَّ إقْرَارُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ وَيَغْرَمُ نَصِيبَهُ (وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فَقِبَلَ وَادَّعَيَا انْقِلَابَ نَصِيبِهِمَا مَالًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَا لَا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ تُقْضَى بِهِ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لِمَنْ يَحْلِفُ ابْتِدَاءً، كَالْعَبْدِ إذَا اتَّهَبَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ لِكَوْنِهِ مَلَكَ الْفِعْلَ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْوِرَاثَةُ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً ثُمَّ لِلْوَارِثِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَالدَّيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْغَائِبُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ مِمَّا لِلشُّبْهَةِ فِيهِ مَجَالٌ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَتَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا لَمْ يَذْكُرْهُ، وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ وَزَعْمُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ جَمِيعًا أَوْ يُكَذِّبَاهُمَا أَوْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا هُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَحْدَهُ وَفِيهِ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ إلَى أَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُمَا ضَمِنَ الْقَاتِلُ لِلشَّاهِدَيْنِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَى الْقَاتِلِ الْمَالَ وَصَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فِيهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا أَقَرَّا بِالْعَفْوِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِيَانًا.
وَقَوْلُهُ (إنْ كَذَّبَهُمَا) أَيْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا (فَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدَيْنِ وَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute