فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى.
قَالَ (فَإِنْ عَادَ فَجَنَى كَانَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى) مَعْنَاهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ. قَالَ (وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ قِيلَ لِلْمَوْلَى إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا وَإِمَّا أَنْ تَفْدِيهِ بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ بِهَا كَالدُّيُونِ الْمُتَلَاحِقَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمْ يَمْنَعْ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا (وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَقْتَسِمُونَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِجَمِيعِ أُرُوشِهِمْ) لِمَا ذَكَرْنَا (وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ) يَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا (لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَرْشِ النَّفْسِ)، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَيَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ الْعَبْدِ) لِأَنَّ الْحُقُوقَ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ، بِخِلَافِ مَقْتُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْفَعَ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَّحِدٌ لِاتِّحَادِ سَبَبِهِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ الْمُتَّحِدَةُ، وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ لِلْوَارِثِ خِلَافَةً عَنْهُ فَلَا
أَصْلٍ حَالٍّ مُوَافَقَةً بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ ﵀ مَا يُشْعِرُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَغَيَّرَتْ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ صَالِحٍ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ بِطَبْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِ النِّيَّةِ بِهِ لِيَكُونَ مُطَهِّرًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْمَاءِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ يَمْنَعُهُ عَنْ الْحُلُولِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ أَصْلِهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ.
لَا يُقَالُ: قَدْ يَتَضَرَّرُ بِوُجُوبِهِ حَالًا فَهُوَ ضَرُورَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ إلَخْ (وَإِنْ مَاتَ) أَيْ الْعَبْدُ الْجَانِي بَعْدَمَا اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا لَمْ يَبْرَأْ بِمَوْتِ الْعَبْدِ عَنْ الْفِدَاءِ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْحَانِثَ غَيْرُ مُخَيَّرٍ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَهَاهُنَا قَدْ تَعَيَّنَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ أَوْجَبُ رِعَايَةً لِاحْتِيَاجِهِمْ وَذَلِكَ فِي التَّعَيُّنِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْفِعْلُ فَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى) أَيْ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ فَإِنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِي بِهِ، حَتَّى أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ الرَّهْنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ أُخْرَى سِوَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لَحِقَتْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ سَائِرُ الدُّيُونِ بِالرَّهْنِ فَقَدْ مَنَعَ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِرَقَبَتِهِ غَيْرُهُ وَهَاهُنَا لَمْ يَمْنَعْ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الرَّهْنِ إيفَاءً أَوْ اسْتِيفَاءً حُكْمًا فَكَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي الْجِنَايَةِ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا عَمَّا فَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى قَدْرِ الْمُعَوَّضِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ) يَعْنِي لَوْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً وَآخَرَ هَاشِمَةً وَآخَرَ مُنَقِّلَةً ثُمَّ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ يُدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ سُدُسُ الْعَبْدِ لِأَنَّ لَهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَإِلَى صَاحِبِ الْهَاشِمَةِ ثُلُثُهُ لِأَنَّ لَهُ أَلْفًا، وَإِلَى صَاحِبِ الْمُنَقِّلَةِ نِصْفٌ لِأَنَّ لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَقْتَسِمُونَ الرَّقَبَةَ هَكَذَا.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ) يَعْنِي فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمْ خِلَافَ مَا اخْتَارَهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ (وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا بِالنَّظَرِ إلَى السَّبَبِ فَهُوَ مُتَعَدِّدٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute