بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ إبْطَالُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
قَالَ (وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ، مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظِّهَارَةِ يُظَهِّرُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ تَمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا.
وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا، وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا.
قَالَ (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا مُفْرَدَةً. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ) قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبُيُوعِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي وَالتَّبَرُّعُ التَّامُّ كَالْهِبَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ فَفِيمَا لَمْ يَتِمَّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْإِيجَابُ الْمُفْرَدُ يَجُوزُ إبْطَالُهُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَفِي التَّبَرُّعِ أَوْلَى، ثُمَّ الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَجَعْتُ عَمَّا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً وَلَهُ أَنْوَاعٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَهَا فِي الْكِتَابِ ضَوَابِطَ هِيَ جَامِعَةٌ وَاضِحَةٌ.
. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ رُجُوعٌ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْجُحُودِ فِي غَيْبَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنَّمَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ الْإِنْكَارُ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ مُعَارِضًا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُحُودِ بِحَضْرَةِ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ رُجُوعٌ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا