وَالثَّانِي بِالْعُقُوبَاتِ وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا، لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَهُوَ الْمُبْطِلُ هُنَالِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ غَالِبًا، فَإِلْزَامُ التَّكْرَارِ فِي السَّجْدَةِ يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه كَانَ يُنْزِلُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْجُدُ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْلِيمًا لِجَوَازِ التَّدَاخُلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ». ثُمَّ التَّدَاخُلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْحُكْمِ وَالْأَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ الْأَوَّلُ وَبِالْعُقُوبَاتِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إذَا كَانَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ كَانَتْ الْأَسْبَابُ بَاقِيَةً عَلَى تَعَدُّدِهَا فَيَلْزَمُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَقُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ فِيهَا لِيَكُونَ جَمِيعُهَا بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ وَاحِدٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا بَلْ فِي دَرْئِهَا احْتِيَاطٌ فَيُجْعَلُ التَّدَاخُلُ فِي الْحُكْمِ لِيَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ مُضَافًا إلَى عَفْوِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِسُبُوغِ الْعَفْوِ وَكَمَالِ الْكَرَمِ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَان فَسَجَدَهَا ثُمَّ تَلَاهَا فِيهِ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ تِلْكَ السَّجْدَةُ الْمَفْعُولَةُ أَوْ لَا، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ التَّدَاخُلُ فِي السَّبَبِ لَكَانَتْ التِّلَاوَةُ الَّتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ سَبَبًا وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ) أَيْ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ بَيَانُ الدَّلِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، أَلَا تَرَى إلَى شَطْرَيْ الْعَقْدِ يَجْمَعُهُمَا الْمَجْلِسُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بِالْأَقْوَالِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى أَصْلِهِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْجَامِعِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَرَّاتِ فِيهِ؟ قُلْنَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ، فَإِنَّ آيَاتِ السَّجْدَةِ مَحْصُورَةٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ تِلَاوَةِ الْجَمْعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ التَّكْرَارِ لِلتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ وَيَتَّفِقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ بَعِيدًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَشَى نَحْوًا مِنْ عَرْضِ الْمَسْجِدِ وَطُولِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقِيلَ إنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ الْخُرُورَ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ فَإِنَّ خِيَارَهَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ، فَإِنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ وَهُوَ قَائِمٌ يَقْعُدُ لِكَوْنِ الْقُعُودِ أَجْمَعَ لِلرَّأْيِ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَالْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute