للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(فَإِنْ وَقَعَتْ فِيهَا بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ مِنْ بَعْرِ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ لَمْ تُفْسِدْ الْمَاءَ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُفْسِدَهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَيْسَتْ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ وَالْمَوَاشِي تَبْعَرُ حَوْلَهَا فَتُلْقِيهَا الرِّيحُ فِيهَا فَجَعَلَ الْقَلِيلَ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ فِي الْمُرَوِّي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ وَالرَّوْثِ وَالْخِثَى وَالْبَعْرِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ

تُطَمَّ الْبِئْرُ كُلُّهَا طَمًّا لِتَنَجُّسِ الْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ، وَإِمَّا أَلَّا تَنْجُسَ أَبَدًا إذْ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ فَكَانَ كَالْمَاءِ الْجَارِي. قَالَ مُحَمَّدٌ : اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَاتَّبَعْنَا الْآثَارَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ وَقَعَتْ) إشَارَةٌ إلَى مَا يَجِبُ نَزْحُهُ مِنْ الْمَاءِ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ النَّجَاسَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الضَّرُورَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ وَرَوْثِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْفَلَوَاتِ، فَإِنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ وَخَثَى الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَبَعْرَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لِشُمُولِهَا الضَّرُورَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ، لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ فَإِنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْبَعْرَةَ شَيْءٌ صُلْبٌ وَعَلَى ظَاهِرِهَا رُطُوبَةُ الْأَمْعَاءِ لَا يَتَدَاخَلُ الْمَاءُ فِي أَجْزَائِهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ، فَإِنَّ الْمُنْكَسِرَ تَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فَتُفْسِدُهُ، وَكَذَا الْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالْخَثَى؛ لِأَنَّ الرَّوْثَ وَالْخَثَى لَا صَلَابَةَ لَهُمَا فَيَتَدَاخَلُ الْمَاءُ فِي أَجْزَائِهِمَا فَيَنْجَسُ الْمَاءُ.

وَإِذَا عَرَفَتْ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ أَقْوَالِ الْمَشَايِخِ فِي جَعْلِ الْكُلِّ غَيْرَ مُفْسِدٍ وَجَعْلِ بَعْضِهِ مُفْسِدًا دُونَ بَعْضٍ مَرْجِعُهُ إلَى وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ) هُوَ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الصَّلَابَةَ وَالْإِمْسَاكَ فِي الْجَمِيعِ مَوْجُودٌ. وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ) إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَثِيرُ هُوَ أَنْ يُغَطَّى وَجْهُ رُبْعِ الْمَاءِ، وَقِيلَ وَجْهُ أَكْثَرِهِ، وَقِيلَ أَلَّا يَخْلُوَ دَلْوٌ مِنْ بَعْرَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: ذَكَرَ الْبَعْرَتَيْنِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ (وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ)؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُقَدِّرُ شَيْئًا بِالرَّأْيِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي

<<  <  ج: ص:  >  >>