للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ليجبروا الكسر، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء.

يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.

يا أمير المؤمنين: حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الأنصاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة: فرآه بعد أيام مقيماً، فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من والٍ يلي شيئاً من أمور الناس، إلا أتى يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، يوقف على جسر جهنم، ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً". فقال له: ممن سمعت هذا؟ فقال: من أبي ذر وسلمان رضي الله عنهما، فأرسل إليهما عمر فسألهما، فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال عمر: واعمراه من يتولاها (١) بما فيها؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت (٢) الله أنفه، وألصق خده بالأرض، فأخذ المنديل -يعني المنصور- فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني.

ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمارة على مكة والطائف أو اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عم نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" (٣) نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه، وأخبره أنه لا يغنى عنه من الله شيئاً إذا أوحى إليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: ٢١٤] فقال: يا عباس، ويا صفية، ويا فاطمة، إنى لست أغنى عنكم من الله شيئاً، لى عملى ولكم عملكم، وقد قال عمر بن الخطاب: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، لا تأخذه في الله لومة لائم، وذكر تمام كلامه للمنصور، ثم قال: فهى نصيحة، والسلام عليك.

ثم نهض فقال: إلى أين؟ فقال: إلى الوطن بأذن أمير المؤمنين. فقال: أذنت


(١) أي الأمارة والولاية بسبب ما فيها من الخطر.
(٢) سلت أنفه. أجدعه.
(٣) انظر كتاب التوابين صفحة (١٦٧) بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط من منشورات دار البيان بدمشق.

<<  <   >  >>