وضاق على الفرنج المجال، وقلت أزوادهم. فنزل أرناط صاحب الشقيف إليه وكان عظيماً فيهم ذا رأي ودهاء، فأظهر الطاعة والمودة للسلطان، ووعده بتسليم المكان وقال: أريد أن تمهلني حتى أخلص أولادي وأهلي من الفرنج، وأسلم إليك الحصن، وتعطيني موضعاً أسكن فيه بدمشق، وأقطاعاً تقوم بي وبأهلي وتمكنني الآن من الإقامة بالشقيف، حتى أخلص أولادي.
فأجابه السلطان إلى ذلك. وجعل يتردد إلى خدمته. وكانت الهدنة بين أنطاكية وبينه قد قرب وقتها، وخاطره مشغول بذلك. وقد سير إلى تقي الدين أن يجمع من يقارب تلك الناحية من العساكر، ويكون بإزاء أنطاكية.
وبلغه أيضاً أن الفرنج قد تجمعوا بصور في جموع عظيمة، وكان الأمر قد استقر مع أرناط أن يسلم إليه الشقيف، في جمادى الآخرة، وهو مقيم بمرج عيون ينتظر الميعاد، وأرناط في هذه المدة يشتري الأقوات من سوق المسلمين، ويقوي الشقيف، والسلطان يحسن الظن به، ولا يسمع فيه قول من يعلمه بغدره ومكره.
فلما بقي من المدة ثلاثة أيام وحضر عنده أرناط قال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه، وطلب التأخير مدة أخرى.
فعلم السلطان مكره، فأخذه وحبسه، فأجاب إلى التسليم، فسير مع جماعة من العسكر إلى تحت الشقيف، فأمرهم بالتسليم، فامتنعوا، وطلب قسيساً حدثه بلسانه وعاد بما قال إليهم، فاشتدوا في المنع.
فعلم حينئذ أن ذلك كان تأكيداً مع القسيس، فأعادوه إلى السلطان، وسيره إلى بانياس، وتقدم إلى الشقيف فحصره، وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه،