والعرض، وهكذا ظهر (العقل) في مقابلة (النقل)، و (التأويل) مقابلاً لـ (التقليد)، وظهر (التوفيق) و (الدراية) مقابلة لـ (الرواية)، وبدأ النزاع عنيفًا، تتدخل فيه السياسة أحيانًا والتنافس العلمي أحيانًا أخرى، ويوجد من الفريقين متطرفون يبعدون بتطرفهم عن قصد الإسلام وَمَنْهَجِهِ السَّوِيِّ، وينسى هؤلاء وهؤلاء الغاية المشتركة بين المخلصين منهم وهي تنزيه الله سبحانه والدفاع عن الإسلام فيستغرقون في الخصومة حتى تصل بهم إلى المُهاترة، فيبالغون في التشويه والاستهزاء ويتناول كل من الطرفين الجانب السيء من خصمه فيذيعه ويجعله عَلَمًا عَلَيْهِ، ويغفل فيه جانبه الوضيء ويواريه.
لقد أطلق المعتزلة ألسنتهم في أهل الحديث، واتهموهم بالجمود والغفلة، وعدم الفطنة، «وَقَدْ لَقَّبُوهُمْ بِالحَشْوِيَّةِ، وَالنَّابِتَةِ، وَالمُجَبِّرَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الجَبْرِيَّةَ. وَسَمَّوْهُمُ الغُثَاءَ وَالغُثْرَ»(١).
ويشير كتاب المأمون الذي أرسله إلى عامله إسحاق بن إبراهيم بخصوص محنة خلق القرآن - يشير إلى استعلاء المعتزلة وغُرورهم الفكري، من مثل قوله: «وَقَدْ عَرَفَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَنَّ الجُمْهُورَ الأَعْظَمَ، وَالسَّوَادَ الأَكْبَرَ مِنْ حَشْوِ الرَّعِيَّةِ وَسَفَلَةِ العَامَّةِ، مِمَّنْ لَا نَظَرَ لَهُ وَلَا رَوِيَّةَ، وَلَا اسْتِدْلَالَ لَهُ بِدَلَالَةِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ، وَلَا اسْتِضَاءَةً بِنُورِ العِلْمِ وَبُرْهَانِهِ، فِي جَمِيعِ الأَقْطَارِ وَالآفَاقِ - أَهْلِ جَهَالَةٍ بِاللَّهِ وَعُمْيٍ عَنْهُ، وَضَلَالَةٍ عَنْ حَقِيقَةِ دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ
(١) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص ٩٦ والمقصود بالحشوية هو الذين أدخلوا كثيراً من الإسرائيليات والغرائب في الحديث وحشوه بالموضوعات، ويعتبر الشيعة الجمهور العظيم أهل حشو، لأنهم قالوا إن النبي مات ولم يستخلف أحدًا. (انظر " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ": ١/ ٦٠١ وما بعدها)، وأصل الغثاء الزبد والوسخ الذي يحمله السيل، والغثر جمع أغثر: سفلة الناس وأرذلهم.