للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإكثار من الفتوى لثقتهم بأنفسهم. واطمئنانهم إلى سلامة مسلكهم استنادًا إلى أن الشرع أشاد بالعقل ومنحه قدرًا من الحرية، ووعده بأن يثيبه على اجتهاده في حالتي الصواب والخطأ. على حين تدفع هذه العوامل آخرين منهم إلى الانقباض عن الفتوى خوفًا من الخطأ وتحرجًا من الزلل وتورعًا عن أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام.

وقد يكون مصدر القلة والكثرة في الفتوى هو العامل العقلي، الذي يتيح لبعض الناس أن يجاوزوا الألفاظ إلى ما وراءها من المعاني، وأن يصل الأسباب بالنتائج، ويربط الجزئيات المتشابهة ويدرجها تحت الكلي الذي يشملها، مستوحيًا روح التشريع في كل ذلك، على حين أن بعض الناس لم تؤهلهم مواهبهم العقلية لمثل ذلك، أو لم يستعملوا مواهبهم العقلية وَلَمْ يُوَجِّهُوهَا هذه الوجهة. إن بعض الناس قد يستطيع حفظ الكثير من النصوص، ولكنه لا يعرف كيف يستخدمها، وصدق القائل: «قَدْ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ أَنْ يَكُونَ أُسْتَاذًا» (١). بل صدق رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أشار بقوله: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ». وَيُعَلِّقُ الشافعي على هذا الحديث بقوله: «دَلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الفِقْهَ غَيْرُ فَقِيهٍ، يَكُونُ لَهُ حَافِظًا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ فَقِيهًا» (٢).

كما أشار - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إلى أصناف حملة العلم، في قوله الذي قسم فيه الناس تبعًا لاختلاف استجابتهم لدعوته: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ


(١) انظر " المدخل إلى علم أصول الفقه " للدكتور محمد معروف الدواليبي: ص ١٠٢.
(٢) " الرسالة " للشافعي: ص ٤٠١، ٤٠٣.

<<  <   >  >>