للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، [وَأَصَابَتْ] مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (١).

قال ابن حزم في هذا الحديث: «فَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ الْلَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الحَدِيثِ مَرَاتِبِ أَهْلَ العِلْمِ دُوْنَ أَنْ يَشُذَّ مِنْهَا شَيْءٌ، فَالأَرْضُ الطَيِّبَةُ النَّقِيَّةُ هِيَ مِثْلُ الفَقِيهِ الضَّابِطِ لِمَا رَوَىَ الفَهْمَ لِلْمَعَانِي التِي يَقْتَضِيهَا لَفْظَ النَصِّ المُتَنَبِّهِ عَلَىَ رَدِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ إِلَىَ نَصِّ حُكْمِ القُرْآنِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا الأَجَادِبُ الْمُمْسِكَةُ لِلْمَاءِ التِي يَسْتَقِي مِنْهَا النَّاسُ فَهِيَ مِثْلُ الطَّائِفَةِ التِي حَفِظَتْ مَا سَمِعَتْ أَوْ ضَبَطَتْهُ بِالكِتَابِ وَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى أَدَّتْهُ إِلَى غَيْرِهَا غَيْرَ مُغَيِّرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا تَنَبُّهٌ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظِ مَا رَوَتْ وَلاَ مَعْرِفَةٍ بِكَيْفِيَّةِ رَدِّ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ إِلَىَ نَصِّ القُرْآنِ وَالسُّنَنِ التِي رَوَتْ، لَكِنْ نَفَعَ اللهُ تَعَالَىْ بِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ فَبَلَّغُوهُ إِلَىَ مَنْ هُوَ أَفْهَمَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَنْذَرَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا إِذْ يَقُولُ: " فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَىَ مِنْ سَامِعٍ ". وَكَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَنَّهُ قَالَ: " فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ". قَالَ أَبُوْ مُحَمَّدٍ: فَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَا سَمِعَ وَلاَ ضَبَطَهُ فَلَيْسَ مِثْلَ الأَرْضِ الطَيِّبَةِ وَلاَ مِثْلَ الأَجَادِبِ المُمْسِكَةِ لِلْمَاءِ بَلْ هُوَ مَحْرُومٌ مَعْذُورٌ أَوْ مَسْخُوطٌ بِمَنْزِلَةِ القِيَعَانِ التِي لاَ تُنْبِتُ الكَلأَ وَلاَ تُمْسِكُ المَاءَ» (٢).

وبحكم هذا الاختلاف الفطري في الإنسان - وهو الاختلاف الذي أكده ما قدمناه من نصوص - وجد من المحدثين من نظر فيما جمع، ودرى ما يحمله


(١) " البخاري بحاشية السندي ": ١/ ١٦، ١٧.
(٢) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: ١/ ١٣٩، ١٤٠.

<<  <   >  >>