للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك كان يحيى بن سعيد القطان: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: «وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَذْهَبُ فِي الْفَتْوَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ» (١). وقال يحيى بن سعيد: «كَمْ [مِنْ] شَيْءٍ حَسَنٍ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُبَّمَا اسْتَحْسَنَّا الشَيْءَ مِنْ رَأْيِهِ فَأَخَذْنَا بِهِ» (٢)، وعن يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: «مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وَكِيعٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ» (٣). وقد رأينا أن أحمد بن حنبل نفسه قبل المحنة كان يفتي برأي مالك أو برأي الشافعي، ويروي البيهقي مناظرة حدثت بين علي بن المديني ويحيى بن معين، وأن ابن المديني تقلد فيها قول الكوفيين وقال به (٤)، وكان موضوع المناظرة هو الوضوء من مس الذكر فذهب الكوفيون إلى عدم الوضوء منه، وذهب الحجازيون إلى الوضوء منه، وقد ذكر البيهقي أَنَّ سُفْيَانَ وَابْنُ جُرَيْجٍ اجْتَمَعَا فَتَذَاكَرَا مَسَّ الذَّكَرِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ - وهو حجازي -: «يُتَوَضَّأُ مِنْهُ»، وَقَالَ سُفْيَانُ: «لاَ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمْسَكَ بِيَدِهِ مَنِيًّا، مَا كَانَ عَلَيْهِ؟» فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «يَغْسِلُ يَدَهُ». قَالَ: «فَأَيُّهُمَا أَكْبَرُ: المَنِيُّ أَوْ مَسُّ الذَّكَرِ؟» (٥). وهذه القصة تبين مدى تأثر الثوري بمنهج الجدل الذي امتاز به الكوفيون، والذي كانوا يفحمون به خصومهم فلا يملكون إزاء هذا الإفحام إلا التشنيع عليهم، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بَعْدَ أَنْ حَجَّهُ سُفْيَانُ: «مَا أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِكَ إِلاَّ الشَّيْطَانُ» (٦).

وأما غير الفقهاء من المحدثين فقد كانوا مقلدين لمن يرتضونه من العلماء ويوضح أبو حاتم الرازي منهجهم بقوله: «العِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ


(١) و (٢) " الانتقاء ": ص ١٢٣.
(٣) " الانتقاء ": ص ١٣٦. ووكيع هو ابن الجراح بن مليح، من بني عامر بن صعصعة، يُكَنَّى أبا سفيان. توفي سنة ١٩٧ هـ.
(٤) " سنن البيهقي ": ١/ ١٣٥، ١٣٦.
(٥) و (٦) " سنن البيهقي ": ١/ ١٣٥، ١٣٨.

<<  <   >  >>