للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للمتعصبين المغالين «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ إِمَامًا» (١).

إن القول باستقلال فقه المحدثين في القرن الثالث، وإعلانه على يد أحمد بن حنبل يرفع كثيرًا من الاضطراب حول المجتهدين قبله في أهل الرأي أو في أهل الحديث كما يحسم الخلاف حول ابن حنبل نفسه في اعتباره من الفقهاء أو من المحدثين.

لقد أثبتنا من قبل أنه لم يكن يوجد خلال القرن الأول تنافس بين أهل الحجاز، وأهل العراق، وأن الاختلاف بينهما كان اختلافًا في البيئة والشيوخ، وقد وجد في كلا القطرين من أكثر من الرأي والفتوى، كما وجد فيهما من انقبض عن الفتوى وتحرج من الرأي، أو ذمه وحذر منه، واستمر الحال على ذلك حتى تسللت عبارة «أَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ» إلى الحياة الفقهية في النصف الثاني من القرن الثاني، مكونة جبهة موحدة من كل المذاهب الفقهية ضد المذهب الحنفي، فلما كان القرن الثالث تميز فقه المحدثين، واتخذ طابعه الخاص، وأصبح مقابلاً لغيره من المذاهب.

أما المحدثون قبل تميز هذا الفقه فقد كان الفقهاء منهم يذهبون مذهب الحجازيين أو الكوفيين: فسفيان الثوري مثلاً كوفي في منهجه ومأخذه، واختياره، قال علي بن المديني: «أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - سِتَّةٌ، الذِينَ يُقْرِئُوْنَ وَيُفْتُونَ وَمِنْ بَعْدِهِمْ أَرْبَعَةٌ، وَمِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِي كَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَهُمْ وَيُفْتِي بِفَتْوَاهُمْ» (٢). وروى ابن عبد البر بسنده عن أبي يوسف قال: «سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَكْثَرُ مُتَابَعَةً لأَبِي حَنِيفَةَ مِنِّي» (٣).


(١) " الانتقاء ": ص ٣٣؛ و " جامع بيان العلم ": ٧/ ١٦٢.
(٢) " تقدمة الجرح والتعديل ": ص ٥٨.
(٣) " الانتقاء ": ص ١٢٨.

<<  <   >  >>