للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بتعاليمها دماؤهم، فأصبحت دَمًا يَسْرِي في عروقهم، بعد أن هضموها وتمثلوها، وأدركوا مقاصدها، فصدروا عنها في كل ما يمس حياتهم: في فتاويهم، وقضاياهم، وسلوكهم الفردي والجماعي. فإذا كان بعض هؤلاء المكثرين في الفتوى لم يكثروا من رواية الحديث ولم يشغلوا به، فليس معنى ذلك أنهم لم يكن عندهم علم بالحديث، بل كان علمهم الكثير به هو الذي يوجه حياتهم، ويقود تصرفاتهم وتقوم عليه فتاواهم وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، ولم يكثروا من روايته خوفًا من الخطأ، فقد روى ابن سعد عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا حَدَّثَ أَتَمَّ حَدِيثًا وَلا أَحْسَنَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. إِلا أَنَّهُ كَانَ رَجُلا يَهَابُ الحَدِيثَ» (١). وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ، وَجَبُنَّا» (٢).

وإنما اشتغل برواية الحديث منهم من تأخر به العصر بعد الفتوحات الإسلامية واستقرار المسلمين، فاحتيج إليه، وقصد للفتوى والحديث.

ولعل بدء الاشتغال برواية الحديث وتدريسه، واتخاذ الحلقات الخاصة به، كان بعد وفاة عمر بن الخطاب، وعلى يد أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بدليل قول أبي هريرة: «لَقَدْ حَدَّثَتُكُمْ بِأَحَادِيثَ، لَوْ حَدَّثْتُ بِهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ لَضَرَبَنِي عُمَرُ بِالدِّرَّةِ» (٣). وبدليل إنكار عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عليه سرده للحديث وتتابع الرواية فيه في موضوعات مختلفة لم تنبعث عن حاجة الناس وسؤالهم في مجلس التحديث (٤). فقد روى ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن


(١) " الطبقات ": ج ٣ قسم ١ ص ٣٩.
(٢) " المحلى " لابن حزم: ص ١٩٦ "؛ " السنة قبل التدوين ": ص ٤٣٢.
(٣) و (٤) " جامع بيان العلم "، لابن عبد البر: ٢/ ١٣١، وقد يكون مقصود عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أنها تنكر على أبي هريرة سرعة إلقائه، ولكن ما اشتهر من إنكار بعض الصحابة عليه كثرة حديثه ترجح ما ذهبت إليه.

<<  <   >  >>