للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى الحديث نظرة فيها الكثير من الشك والريبة في صحة ثبوته، وبالتالي في صلاحية استخدامه، سواء في ميدان العقيدة أو في ميدان الفروع العلمية، كما تنظر إلى المُحَدِّثِينَ نظرة استعلاء تَكَادُ تُصَرِّحُ بأنهم - أي المعتزلة - أكثر فهمًا وتطورًا، وأقدر على خدمة الشريعة من هؤلاء المتخلفين، وهو موقف سوف نعالج أسبابه ومراحله في الفصل القادم إن شاء الله.

والذي يهمنا هنا أن المعتزلة قد نجحوا في استمالة السلطة التنفيذية متمثلة في الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق - وكسبوا عطفها وتأييدها، وأوغروا صدرها عَلَى المُحَدِّثِينَ، وأغروها بهم، متخذين من القول بخلق القرآن طُعْمًا يَتَصَيَّدُونَهُمْ بِهِ، وبلاء يقهرهم، وعذابًا يصبونه عليهم، وقد ابتلي بهذه الفتنة كثيرون، كان فيهم الإمام أحمد بن حنبل،، الذي تمسك بموقفه المعارض للمعتزلة، لم ترهبه قوة، وَلَمْ يُغيِّرْ مِنْ رَأْيِهِ بَلَاءٌ، واستمرت محنته أخريات عهد المأمون وطيلة خلافة المعتصم والواثق حتى رفع هذه المحنة الخليفة المتوكل.

كان رد الفعل لهذه الفترة عنيفًا جدًا، فَقَدْ كَرَّ المُحَدِّثُونَ على المعتزلة يحطمونهم وينتقمون منهم، ويوفون لهم الدين، ويكيلون لهم بنفس الكيل، ويرمونهم بكل نقيصة، وأصبح القول بخلق القرآن تهمة يكفي أن يتهم بها إنسان ما حتى يصدر الحكم عليه بالمقاطعة والتجريح، ولا تشفع له منزلته في العلم ولا بلاؤه فيه، كما حدث للبخاري والكرابيسي وداود الظاهري (١).


(١) انظر " طبقات الشافعية ": ١/ ١٩٠، ٢٥١ وما بعدها. ٢/ ١١، ١٣. ٢/ ٤٣، ٤٤. ومما يدل على خطر التهمة بخلق القرآن أو حتى من يقول بأن اللفظ به مخلوق، وعلى خطورة حكم ابن حنبل - قول أحد العلماء لتلاميذه (*): «اعْتَبِرُوا بِهَذَيْنِ: حُسَيْنُ الكَرَابِيسِيُّ وَأَبِي ثَوْرٍ: فَالحُسَيْنُ فِي عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ لَا يَعْشِرُهُ فِي عِلْمِهِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ =

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) هو محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي (ت ٢٧٠ هـ)، انظر " طبقات الشافعية الكبرى "، تاج الدين السبكي (ت ٧٧١ هـ)، تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ٢/ ١٢٠، الطبعة الثانية: ١٤١٣ هـ، نشر هجر للطباعة والنشر والتوزيع.
وانظر " تاريخ بغداد "، للخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ)، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، ٨/ ٦١١، الطبعة الأولى: ١٤٢٢ هـ - ٢٠٠٢ م، دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.

<<  <   >  >>