للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

" سُننه " فَلَا يُسَمِّي أَبَا حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ فِي جُمْلَةِ العِرَاقِيِّينَ، أَوْ يَكَنِّي عَنْهُ بِـ (بَعْضِ أَهْلِ العِرَاقِ).

وتكاد النظرة إلى أبي حنيفة هذا القرن تساوي النظرة إلى أهل البدع ويشيع ذلك بين الناس حتى يقول الشاعر:

إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً بِمَا حَدَّثْتِنِي ... فَعَلَيْكِ إِثْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ زُفَرِ

ولما سمع الطحاوي الحنفي هذا البيت قال: «وَدِدْتُ أَنَّ لِيَ أَجْرَهُمَا وَحَسَنَاتِهِمَا وَعَلَيَّ إِثْمُهُمَا [وَسَيِّئَاتُهُمَا]» (١) (*)

وإذا كان القرنان الثاني والثالث يمثلان العصر الذهبي للاجتهاد والتصنيف في الحديث، ومع ذلك وجد فيه شيء من الخصومة والعصبية، فإن تلك الخصومة وهذه العصبية قد ألقتا بثقلهما كله في القرون التالية، حيث ندر الاجتهاد وفشا التقليد، وساد ضيق الأفق وجمود الفكر لتباعد ما بين الخلف والمنابع الإسلامية الأولى، فنظرتهم إلى الشريعة محدودة بحدود رجال المذهب، مسورة بأفكارهم، فورثوا فيما ورثوا، الخصومة بين أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، على الرغم من أن الفوارق بين المذاهب المختلفة قد ذابت إلى حد كبير، واشترك الأتباع في التقليد حتى لم يعد مبرر للتفرقة بينهم، ولم يعد هناك داع لإطلاق أهل الحديث على طائفة وإطلاق أهل الرأي على طائفة أخرى، بل الأولى أن يطلق عليهم: مقلدو أهل الحديث، ومقلِّدُو أهل الرأي. وكفى بالتقليد وصمة للفريقين.


(١) انظر " الطحاوي وأثره في الحديث "، للمؤلف، نشر الهيئة العامة للكتاب.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قول الطحاوي كما أثبته من " جامع بيان العلم وفضله " لا كما ورد في الكتاب المطبوع، انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري: ٢/ ٨٩٧، حديث رقم ١٦٨٣، الطبعة الأولى: ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ويعلق ابن عبد البر على الإمام الطحاوي قائلاً: «وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِسِيَرِ القَوْمِ وَأَخْبَارِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ كُوفِيَّ المَذْهَبِ وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَذَاهِبِ الفُقَهَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالقِيَاسِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ...». المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.

<<  <   >  >>