"لا كتاب اشتمل على ما اشتمل عليه القرآن؛ لاشتماله مع قلة ألفاظه وتضمنها لِمَا أبهر العقول وأعيى الفحول من بدائع الفصاحة وغايات البلاغة، فضلًا عما حواه من العلوم التي سأشير إلى شذرة منها على بيان المطالب الإلهية واردة على أحسن أسلوب وآنقه، كالاستدلال بالصنعة على وجود الصانع، وكدلائل التوحيد، وتحقيق وصفه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بنعوت الجلال، وكأسمائه الحسنى، وكالاحتجاج على صحة وقوع المعاد الجسماني، وكدفع شبهات الإلحاد، وكالجزاء بالعدل والإحسان، وتفاوت الدرجات والدركات.
وعلى بيان تهذيب الأخلاق، والحث على الاتصاف بمحاسنها، والزجر عن قبائحها على أكمل وجه، وأوجز نظم ...
وعلى بيان ما يحتاج إليه من السياسات في نظام أحوال الخلق كشرع العبادات المثمرة، وتحديد العهد بعقد الأيمان، وإظهار وصف العبودية بدوام القربات الموصلة إلى محبة المعبود، وكشرع ما يحصل به الغرض بأقرب وجه كالبيع والإجارة والنكاح، وكشرع الزواجر لحفظ الأبدان والأديان والعقول والأنساب والأموال.
وعلى بيان علم تصفية الباطن وتطهير النفس من الرذائل، كالعجب والكبر والرياء وتحليتها بالأخلاق العلية كالإخلاص واليقين والعلم والمعرفة.
وعلى بيان ما تتعظ به النفس مما ذكره تعالى من معاملته القرون الماضية في الأزمنة الخالية، والوقوف على آياته تعالى.
إلى غير ذلك من العلوم التي لا يعلمها إلا علام الغيوب، ومن ثم قال بعضهم: لا يحيط بما فيه من العلوم إلا المتكلم به، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلا ما استأثر سبحانه به، ثم خلفاؤه لا سيما الأربعة وابن مسعود وابن عباس ... ثم تابعوهم بإحسان، ثم ضعفت الهمم عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه، وسائر فنونه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه" (١).