يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لاختلاف أهل العلم في تعريف الكبيرة، وبيانه لبعض أقوالهم: "أمثل هذه الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد وأحمد بن حنبل وغيرهما، وهو أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا، وحد الآخرة ...
وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر ...
وإنما قلنا إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السلف، بخلاف تلك الضوابط؛ فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام أو التصوف بغير دليل شرعي.
الثاني: أن الله قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)} [النساء: ٣١].
فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وُعِد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضي ذلك؛ فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر.
وكذلك كل من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مُكَفَّرةً عنه باجتناب الكبائر، إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يُعاقَب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد يُتَلَقَّى من خطاب الشارع، وما سوى ذلك ليس مُتَلَقَّى من كلام الله
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١١/ ٦٥٠)، مدارج السالكين (١/ ٣٢٧)، الكبائر للذهبي (ص ٢٢)، الآداب الشرعية لابن مفلح (١/ ٢٤٢)، شرح الطحاوية (٢/ ٥٢٥)، فتح الباري (١٢/ ١٨٨)، الذخائر (ص ١٢١).