للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ عَهْدِي {قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: ٨١] وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ مُقِرٌّ وَمُقَرٌّ لَهُ وَصِيغَةٌ وَمُقَرٌّ بِهِ

(وَالْمُقَرُّ بِهِ) مِنْ الْحُقُوقِ (ضَرْبَانِ) أَحَدُهُمَا: (حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ، وَإِلَى مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ. (وَ) الثَّانِي: (حَقُّ الْآدَمِيِّ) كَحَدِّ الْقَذْفِ لِشَخْصٍ. (فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) الَّذِي يَسْقُطُ بِذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ. (يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ) لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الدَّرْءِ وَالسَّتْرِ؛ وَلِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ لِمَاعِزٍ بِالرُّجُوعِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّك قَبَّلْت؟ لَعَلَّك لَمَسْت؟ أَبِكَ جُنُونٌ» وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ وَلَا يَقُولَ لَهُ ارْجِعْ فَيَكُونُ آمِرًا لَهُ بِالْكَذِبِ. وَخَرَجَ بِالْإِقْرَارِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بِمَا لَا

ــ

[حاشية البجيرمي]

لِأَنَّهَا أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ فُسِّرَتْ شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِقْرَارِ.

قَوْلُهُ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ» فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْغُدُوِّ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ اذْهَبْ، وَسَبَبُهُ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَسْأَلُك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ؛ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ أَحْكُمُ بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ فَقَالَ الْأَوَّلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا أَيْ أَجِيرًا عِنْدَ هَذَا الرَّجُلِ أَيْ رَاعِيًا وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُغْدُ يَا أُنَيْسُ فَذَهَبَ إلَيْهَا أُنَيْسُ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمُوهَا» ق ل عَلَى التَّحْرِيرِ. وَأُنَيْسٌ هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ لَا أَنَسٌ خَادِمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَسْلَمِيٌّ وَالثَّانِيَ أَنْصَارِيٌّ. وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ لِلْإِرْسَالِ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَرَبُ تَكْرَهُ أَنْ يُؤَمَّرَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا.

قَوْلُهُ: «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ» إلَخْ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ عَلَّقَ رَجْمَهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْقَتْلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَغَيْرُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ أَفَادَهُ الْعَزِيزِيُّ. قَوْلُهُ: (عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ) وَلَوْ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا أَوْ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَرْبَعَةٌ) وَلَا يُشْتَرَطُ مُقِرٌّ عِنْدَهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ شَاهِدٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

قَوْلُهُ: (إلَى مَا يَسْقُطُ) وَهُوَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَمَا لَا يَسْقُطُ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِآدَمِيٍّ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ.

قَوْلُهُ: (بِالشُّبْهَةِ) أَيْ الطَّرِيقُ فِي سُقُوطِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّخْصَ يَرَى هَذَا الْأَمْرَ أَيْ الْحَدَّ لِلَّهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمُسَامَحَةِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ لِقُوَّةِ رَجَائِهِ فِي اللَّهِ وَالْأَوْلَى أَنْ تُفَسَّر الشُّبْهَةُ بِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْقَاضِي بِرُجُوعِهِ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الْأَوَّل أَوْ فِي الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ صَادِقًا فِي الْأَوَّلِ أَيْ الْإِقْرَارِ فَرُجُوعُهُ عَنْهُ لِقُوَّةِ رَجَائِهِ فِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ.

قَوْلُهُ: (كَالزَّكَاةِ) كَأَنْ قَالَ عَلَيَّ زَكَاةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ ثُمَّ رَجَعَ.

قَوْلُهُ: (الَّذِي يَسْقُطُ إلَخْ) لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْمَتْنِ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ يَصِحُّ فِيهِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ " الَّذِي يَسْقُطُ إلَخْ " فَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمَتْنِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَحِلِّ التَّقْيِيدِ، فَكَانَ الْأَوْلَى التَّقْيِيدُ. وَيُجَابُ عَنْ الْمَتْنِ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِحَقِّ اللَّهِ حَقُّ اللَّهِ الْمَحْضُ وَمُرَادُهُ بِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمَحْضُ أَوْ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَآدَمِيٍّ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ. قَوْلُهُ: (يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ) فَلَوْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ حَدٍّ فَتَمَّمُوهُ فَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ وَتَجِبُ حِصَّةُ الْبَاقِي مِنْ الدِّيَةِ بِعَدَدِ الضَّرَبَاتِ. وَتَعْبِيرُهُ بِالصِّحَّةِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ فَحَدُّوهُ ضَمِنَ بِالدِّيَةِ لَا الْقَوَدِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِظَنِّهِمْ كَذِبَهُ فِي الرُّجُوعِ وَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ اهـ م د. وَقَوْلُهُ: لَا يُنَافِي أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ بَلْ الْأَوْلَى عَدَمُ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَّةِ وَالتَّوْبَةِ بَاطِنًا، وَكَذَا الشُّهُودُ يُنْدَبُ لَهُمْ عَدَمُ الشَّهَادَةِ إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَعِبَارَةُ الْمَدَابِغِيِّ عَلَى التَّحْرِيرِ: فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ بِنَحْوِ " كَذَبْت " أَوْ " رَجَعْت " أَوْ " مَا زَنَيْت " وَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ: " كَذَبْت فِي رُجُوعِي ". وَقَبُولُ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ كَسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ فَهُوَ بَاقٍ، فَلَا يَجِبُ بِرُجُوعِهِ بَلْ يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ إقْرَارِهِ فِيهِ مِنْ عَدَمِ حَدِّهِ لِثُبُوتِ عَدَمِ إحْصَانِهِ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا قَوْلُهُ: (عَلَى الدَّرْءِ) أَيْ التَّرْكِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ) أَيْ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ وَفِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>