للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية البجيرمي]

مُقَارِضًا؛ لِأَنَّ خَدِيجَةَ لَمْ تَدْفَعْ لَهُ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَنْهَا فَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِجُعْلٍ، فَقَوْلُهُ: ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَارَضَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَتْهُ لَهُ لِمَا بَلَغَهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَمَانَتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرَّةِ كَسَبَ الْمَالَ أَضْعَافَ أَمْثَالِهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً فَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ وَالْبَاعِثُ لَهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ.

قَوْلُهُ: (ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَحْوِ شَهْرَيْنِ وَسَنَةٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ ذَاكَ نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ حَكَاهُ مُقَرَّرًا لَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ز ي. وَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَيْءٍ، وَتُوُفِّيَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْأَصَحِّ وَهِيَ بِنْتُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. اهـ. بِرْمَاوِيٌّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِب قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَنَا رَجُلٌ لَا مَالَ لِي وَقَدْ اشْتَدَّ الزَّمَانُ أَيْ الْقَحْطُ وَأَقْبَلَتْ وَدَامَتْ عَلَيْنَا سِنُونَ مُنْكَرَةٌ أَيْ شَدِيدَةُ الْجَدْبِ وَلَيْسَ لَنَا مَادَّةٌ، أَيْ مَا يَمُدُّنَا وَمَا يَقُومُنَا وَلَا تِجَارَةٌ، وَهَذِهِ عِيرُ قَوْمِك وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَيْرَةَ وَقَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إلَى الشَّامِ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تَبْعَثُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِك فِي عِيرِهَا فَيَتَّجِرُونَ لَهَا فِي مَالِهَا وَيُصِيبُونَ مَنَافِعَ، فَلَوْ جِئْتهَا فَعَرَضْت نَفْسَك عَلَيْهَا لَأَسْرَعَتْ إلَيْك وَفَضَّلَتْك عَلَى غَيْرِك لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْك مِنْ طَهَارَتِك، وَإِنْ كُنْت لَأَكْرَهُ أَنْ تَأْتِيَ إلَى الشَّام وَأَخَافُ عَلَيْك مِنْ الْيَهُودِ، وَلَكِنْ لَا تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَلَعَلَّهَا تُرْسِلُ إلَيَّ فِي ذَلِكَ " فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَلِّيَ غَيْرَك فَتَطْلُبَ أَمْرًا مُدْبِرًا. فَافْتَرَقَا، فَبَلَغَ خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ مُحَاوَرَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ فَقَالَتْ: مَا عَلِمْت أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا. ثُمَّ أَرْسَلَتْ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي دَعَانِي إلَى الْبَعْثِ إلَيْك مَا بَلَغَنِي مِنْ صِدْقِ حَدِيثِك وَعِظَمِ أَمَانَتِك وَكَرَمِ أَخْلَاقِك وَأَنَا أُعْطِيك ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِك. فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَقِيَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَرِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك. فَخَرَجَ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ يُرِيدُ الشَّامَ وَقَالَتْ خَدِيجَةُ لِمَيْسَرَةِ: لَا تَعْصِ لَهُ أَمْرًا وَلَا تُخَالِفْ لَهُ رَأْيًا. وَمِنْ حِينِ سَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظَلَّتْهُ الْغَمَامَةُ، فَلَمَّا قَدِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ فِي سُوقِ بُصْرَى فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ يُقَالُ لَهُ نُسْطُورًا بِالْقَصْرِ، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ وَكَانَ يَعْرِفُهُ فَقَالَ: يَا مَيْسَرَةُ مَنْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؟ فَقَالَ مَيْسَرَةُ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا نَبِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ مَيْسَرَةُ: نَعَمْ لَا تُفَارِقُهُ. قَالَ الرَّاهِبُ: هُوَ هُوَ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَا لَيْتَ أَنِّي أُدْرِكُهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ أَيْ يُبْعَثُ فَوَعَى ذَلِكَ مَيْسَرَةُ؛ وَالْحُمْرَةُ كَانَتْ فِي بَيَاضِ عَيْنَيْهِ وَهِيَ الشَّكْلَةُ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْكَلُ الْعَيْنَيْنِ، وَهَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ. وَلَمَّا رَأَى الرَّاهِبُ الْغَمَامَةَ تُظِلُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزِعَ فَدَنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرًا وَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَقَدَمَهُ وَقَالَ: آمَنْت بِك وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّك الَّذِي ذَكَرَك اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْت فِيك الْعَلَامَاتِ كُلَّهَا أَيْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِك الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، خَلَا خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَوْضِحْ لِي عَنْ كَتِفِك، فَأَوْضَحَ لَهُ فَإِذَا هُوَ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ يَتَلَأْلَأُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِك عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْزِلُ بَعْدِي تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْهَاشِمِيُّ الْعَرَبِيُّ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ. وَكَانَتْ اسْتَأْجَرَتْهُ بِبَكْرَتَيْنِ وَكَانَتْ تُسَمَّى لِغَيْرِهِ بَكْرَةً، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: اسْتَأْجَرَتْهُ عَلَى أَرْبَعِ بَكَرَاتٍ اهـ مِنْ السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ، وَفِيهَا كَلَامٌ طَوِيلٌ فَارْجِعْ إلَيْهِ إنْ شِئْت. وَقَوْلُهُ " اسْتَأْجَرَتْهُ بِبَعِيرَيْنِ " يُنَافِي قَوْلَ الشَّارِحِ " ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ إلَخْ "؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قِرَاضٌ لَا إجَارَةٌ، وَيُمْكِنُ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ فَلْيُرَاجَعْ. وَقَوْلُهُ " الَّذِي بَشَّرَ بِك عِيسَى " أَيْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: ٦] .

<<  <  ج: ص:  >  >>