الْحُكْمُ الثَّالِثُ الْجَوَازُ فَلِلْمُودِعِ الِاسْتِرْدَادُ وَلِلْوَدِيعِ الرَّدُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَّا الْمُودِعُ فَلِأَنَّهُ الْمَالِكُ، وَأَمَّا الْوَدِيعُ فَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْحِفْظِ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ جَوَازُ الرَّدِّ لِلْوَدِيعِ بِحَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا الْقَبُولُ وَإِلَّا حَرُمَ الرَّدُّ فَإِنْ كَانَ بِحَالَةٍ يُنْدَبُ فِيهَا الْقَبُولُ فَالرَّدُّ خِلَافُ الْأَوْلَى إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمَالِكُ. وَتَنْفَسِخُ بِمَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْوَكَالَةُ مِنْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ جُنُونِهِ أَوْ إغْمَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ فِيهَا.
خَاتِمَةٌ: لَوْ ادَّعَى الْوَدِيعُ تَلَفَ الْوَدِيعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَبَبًا، أَوْ ذَكَرَ لَهُ سَبَبًا خَفِيًّا كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْأَوْلَى، نَعَمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَإِنْ ذَكَرَ سَبَبًا ظَاهِرًا كَحَرِيقٍ، فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ وَعُمُومُهُ وَلَمْ يُحْتَمَلْ سَلَامَةُ الْوَدِيعَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يُغْنِيهِ عَنْ الْيَمِينِ، أَمَّا إذَا اُحْتُمِلَ سَلَامَتُهَا بِأَنْ عَمَّ ظَاهِرًا لَا يَقِينًا فَيَحْلِفُ لِاحْتِمَالِ سَلَامَتِهَا فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ دُونَ عُمُومِهِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ، وَإِنْ جَهِلَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهِ ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ بِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلَفِ بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى.
وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَرَقَةً مَكْتُوبًا فِيهَا الْحَقُّ الْمَقَرُّ بِهِ كَمِائَةِ دِينَارٍ وَتَلِفَتْ بِتَقْصِيرِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مَكْتُوبَةً وَأُجْرَةَ الْكِتَابَةِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتْلَفَ ثَوْبًا مُطَرَّزًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ التَّطْرِيزِ لِأَنَّ التَّطْرِيزَ يَزِيدُ قِيمَةَ الثَّوْبِ غَالِبًا، وَلَا كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْقِصُهَا.
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (مُتَبَرِّعٌ بِالْحِفْظِ) قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأُجْرَةٍ لَزِمَتْ، فَلْيُرَاجَعْ.
قَوْلُهُ: (يُنْدَبُ فِيهَا الْقَبُولُ) بِأَنْ كَانَ ثِقَةً قَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا وَأَمِنَ الْخِيَانَةَ.
قَوْلُهُ: (وَعُمُومُهُ) أَيْ لِلْمَحِلِّ.
قَوْلُهُ: (طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهِ) وَلَوْ وَقَعَتْ دَابَّةٌ فِي مَهْلَكَةٍ وَهِيَ مَعَ رَاعٍ أَوْ وَدِيعٍ فَتَرَكَ تَخْلِيصَهَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِلَا كَبِيرِ مَشَقَّةٍ أَوْ ذَبَحَهَا بَعْدَ تَعَذُّرِ تَخْلِيصِهَا فَمَاتَتْ ضَمِنَهَا، وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَبْحِهَا لِذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَا فِي دَعْوَاهُ خَوْفًا أَلْجَأَهُ إلَى إيدَاعِ غَيْرِهِ كَمَا فِي شَرْحِ م ر، وَفِيهِ أَيْضًا؛ وَلَوْ دُفِعَ لَهُ مِفْتَاحُ نَحْوِ بَيْتِهِ فَدَفَعَهُ لِآخَرَ فَفَتَحَ وَأَخَذَ الْمَتَاعَ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ حِفْظَ الْمِفْتَاحِ لَا الْمَتَاعِ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ الْتَزَمَهُ ضَمِنَهُ اهـ. قَوْلُهُ: " وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَبْحِهَا لِذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ " قَالَ ع ش عَلَيْهِ: بَقِيَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاعِيًا وَلَا مُودِعًا وَرَأَى نَحْوَ مَأْكُولٍ لِغَيْرِهِ وَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ بِبَيِّنَةٍ بِهِ وَحِفْظُهُ لِمَالِكِهِ وَإِذَا تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ لَا يَضْمَنُ أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ وَلَهُ تَرْكُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ لِلْقَطْعِ بِرِضَا مَالِكِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إتْلَافَ مَالِهِ، لَكِنْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ مَا قَالُوهُ فِي الرَّاعِي، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ اُحْتُمِلَ تَصْدِيقُهُ كَمَا قَالَهُ حَجّ فِي الرَّاعِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَفْرُوضٌ فِي عَارِفٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْهَلَاكِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ) أَيْ بِهِ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ.
قَوْلُهُ: (مَكْتُوبًا فِيهَا) فِي خَطِّ الْمُؤَلِّفِ مَكْتُوبٌ بِالرَّفْعِ وَالصَّوَابُ النَّصْبُ صِفَةً لِوَرَقَةٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَالْحَقُّ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِوَرَقَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ رَبِيعَةَ الَّذِينَ يَرْسُمُونَ الْمَنْصُوبَ بِصُورَةِ الْمَرْفُوعِ وَالْمَجْرُورِ.
قَوْلُهُ: (مَكْتُوبَةً) حَالٌ أَيْ لَا بَيْضَاءَ لِأَنَّ قِيمَتَهَا مَكْتُوبَةً دُونَ قِيمَتِهَا خَالِيَةً عَنْ الْكِتَابَةِ وَقَدْ جُبِرَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أُجْرَةِ الْكِتَابَةِ. قَوْلُهُ: (وَأُجْرَةُ الْكِتَابَةِ) أَيْ الْمُعْتَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحُجَجُ الْمَعْرُوفَةُ وَالتَّذَاكِرُ الدِّيوَانِيَّةُ وَنَحْوُهَا؛ وَلَا نَظَرَ لِمَا يَغْرَمُ عَلَى مِثْلِهَا حِينَ أَخَذَهَا لِتَعَدِّي آخِذِيهِ ع ش عَلَى م ر، أَيْ فَلَا عِبْرَةَ بِمَا اُعْتِيدَ فِي مُقَابَلَةِ كِتَابَةِ الْحُجَجِ مِنْ أَخْذِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَلَا يَغْرَمُ الْمُتْلِفُ لِحُجَّةِ تَمَلُّكِ دَارٍ مَثَلًا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُكْمِ قَاضٍ قَدْ أَخَذَ فِي نَظِيرِ الْحُكْمِ دَرَاهِمَ وَإِنْ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا ضَمَانَ مَا أَخَذَهُ الْقَاضِي، بَلْ أُجْرَةُ مِثْلِ كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فَقَطْ مَعَ قِيمَةِ الْوَرَقَةِ مَكْتُوبَةً كَمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. اهـ. م د. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا " وَمَحَلُّ جَوَازِ أَخْذِهِ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُهُ هُوَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَا أَكْتُبُهَا بَلْ حَتَّى تُعْطِينِي كَذَا وَكَذَا زِيَادَةً عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْوَرَقَةِ فَيَجُوزُ لَهُ الْإِعْطَاءُ وَلَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ لِحَاجَتِهِ وَاضْطِرَارِهِ إلَى ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ الْإِعْطَاءُ لِلشَّاعِرِ خَوْفًا مِنْ هَجْوِهِ. وَقَوْلُهُ: " ضَمَانَ مَا أَخَذَهُ " الْأَوْلَى حَذْفُ " ضَمَانَ ".
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ) أَيْ مُطَرَّزًا، وَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ لُزُومِ أُجْرَةِ