فَيَهْلَكَ، وَأَنْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ مَالُهُمْ صَدَقَةً بَعْدَ وَفَاتِهِمْ تَوْفِيرًا لِأُجُورِهِمْ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّاسَ فِي الْإِرْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَرِثُ وَيُورَثُ وَعَكْسُهُ فِيهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُورَثُ وَلَا يَرِثُ وَعَكْسُهُ.
فَالْأُولَى كَزَوْجَيْنِ وَأَخَوَيْنِ، وَالثَّانِي كَرَقِيقٍ وَمُرْتَدٍّ، وَالثَّالِثُ كَمُبَعَّضٍ وَجَنِينٍ فِي غُرَّتِهِ فَقَطْ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْهُ لَا غَيْرُهَا.
وَالرَّابِعُ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ وَلَا يُوَرَّثُونَ.
(وَأَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ) مِنْ النَّسَبِ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ وَهُمْ (الِابْنُ) لِأَنَّهُ يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ (ثُمَّ ابْنُهُ) وَإِنْ سَفَلَ لِأَنَّهُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَطَعَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَصَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْهُ، وَأَنَّهُ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَّفَهُمْ بِقَطْعِ حُظُوظِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا عَارِيَّةٌ وَأَمَانَةٌ وَمَنْفَعَةٌ لِعِيَالِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: ١٦] فَالْمُرَادُ إرْثُ الْعِلْمِ. وَدَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ السُّوقَ فَقَالَ: أَرَاكُمْ هَهُنَا وَمِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ النَّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ وَتَرَكُوا السُّوقَ فَلَمْ يَرَوْا مِيرَاثًا، فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا رَأَيْنَا مِيرَاثًا يُقَسَّمُ. قَالَ: فَمَاذَا رَأَيْتُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَذَلِكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ مَرْفُوعًا: «الْعِلْمُ مِيرَاثِي وَمِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إذَا مَاتُوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «الْعُلَمَاءُ مَصَابِيحُ الْأَرْضِ وَخَلَفُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِي وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ذَكَرَهُ السُّحَيْمِيُّ فِي شَرْحِ الشَّيْخِ عَبْدِ السَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (لِذَلِكَ) أَيْ لِلْإِرْثِ قَوْلُهُ: (فَهَلَكَ) بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} [الأنفال: ٤٢] أَيْ فَيَكْفُرَ. وَفِي الْخَصَائِصِ: وَمَنْ تَمَنَّى مَوْتَهُ كَفَرَ وَلِذَلِكَ لَمْ يُوَرِّثْ لِئَلَّا يَتَمَنَّى وَارِثُهُ مَوْتَهُ فَيَكْفُرَ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
قَوْلُهُ: (وَعَكْسُهُ) أَيْ وَمَنْ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ. وَقَوْلُهُ: " فِيهِمَا " أَيْ فِي يَرِثُ وَيُورَثُ.
قَوْلُهُ: (وَأَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ) الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ كُلُّ ذَكَرٍ نَسِيبٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبِينَ الْمَيِّتِ أُنْثَى وَذُو الْوَلَاءِ فَكُلُّ ذَكَرٍ جِنْسٌ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجُ وَالْمُعْتِقُ وَجَمِيعُ الْأَقَارِبِ الذُّكُورِ وَخَرَجَ عَنْهُ الْمُعْتِقَةُ. وَقَوْلُهُ: " نَسِيبٍ " خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ وَالْمُعْتِقُ. وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أُنْثَى " خَرَجَ بِهِ ذَوُو الْأَرْحَامِ وَلَمَّا لَمْ يَشْمَلْ ذَا الْوَلَاءِ زَادَهُ. هَذَا وَفِيهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِابْنِ وَالْأَبِ يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الْآخَرِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ بَعْدَ الشَّقِيقِ مَعَ أَنَّهُمَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَقْرَبُ الْعَصَبَةِ مَا يَشْمَلُ الْأَقْوَى، ثُمَّ رَأَيْت لِبَعْضِهِمْ مَا نَصُّهُ: أَفْهَمَ كَلَامُ الْمَتْنِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَقْرَبُ مَعَ أَنَّ الْأَقْرَبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ الِابْنُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَقْرَبُ حَلُّ الشَّارِحِ حَيْثُ جَعَلَ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ مَحْذُوفًا وَقَدَّرَهُ بِقَوْلِهِ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الْعَصَبَةَ بِالِابْنِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَيُجَابُ عَنْ الْمَتْنِ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَقْرَبِ حَقِيقَةً أَوْ بِالْإِضَافَةِ لِمَنْ بَعْدَهُ فَالْحَقِيقُ الِابْنُ وَالْإِضَافِيُّ مَنْ بَعْدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَعْدَهُ، لَكِنَّ التَّقْدِيمُ بِالْأَقْرَبِيَّةِ فِي غَيْرِ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَلِأَعْمَامٍ وَبَنِيهِمْ أَمَّا فِيهِمْ فَهُوَ بِالْقُوَّةِ لِاتِّحَادِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمَتْنِ مَا يَشْمَلُ الْأَقْوَى. وَقَالَ ع ش عَلَى الْغَزِّيِّ: الْمُرَادُ بِالْأَقْرَبِ الْأَحَقُّ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَحَقِّيَّةُ مِنْ الْجِهَةِ أَوْ الْقُرْبِ أَوْ الْقُوَّةِ. وَمَرَاتِبُ الْعُصُوبَةِ سَبْعٌ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ.
بُنُوَّةٌ أُبُوَّةٌ أُخُوَّة ... جُدُودَةٌ كَذَا بَنُو الْأُخُوَّة
عُمُومَةٌ وَلَا وَبَيْتُ الْمَالِ ... سَبْعٌ لِعَاصِبٍ عَلَى التَّوَالِي
وَالْأُخُوَّةُ وَالْجُدُودَةُ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُدْلِي إلَيْهِ بِالْأَبِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّجَالَ كُلَّهُمْ عَصَبَةٌ إلَّا الزَّوْجَ وَالْأَخَ لِلْأُمِّ وَأَنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ صَاحِبَاتُ فَرْضٍ إلَّا الْمُعْتِقَةُ اهـ.
قَوْلُهُ: (الْعَصَبَةُ